الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }

وهذا نوع رابع من دلائلِ وُجُودِ الإله سبحانه وتعالى وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال باحوال الإنسان، فقوله: { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ، يعني آدم عليه الصلاة والسلام، وهي نفس واحدة، وحواء مَخْلُوقةٌ من ضِلْعٍ من أظلاعه، فصار كل [الناس] من نَفْسٍ واحدة، وهي آدم.

فإن قيل: فما القول في عِيسَى؟

فالجواب: أنه مَخْلوقٌ من مريم التي هي مَخْلُوقَةٌ من أبَوَيْهَا.

فإن قيل: أليس القرآن دالٌّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المَنْفُوخ فيها، فكيف يصح ذلك؟!

فالجواب: أن كلمة " من " تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء عيسى عليه الصلاة والسلام كان من مريم، وهذا القدر كان في صِحَّةِ هذا اللفظ.

قال القاضي: فرق بين قوله تبارك وتعالى: [ " أنشأكم " وبين قوله: " خلقكم " لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء، ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مَظْهَرِ من الأبوين، كما يقال في النبات: إنه تعالى أنشأه بمعنى] النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء.

قوله: " فَمُسْتَقَرٌّ " قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأما " مُسْتَوْدَعٌ " فالكل قرأه مفتوح الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمرو بن العلاء كسرها فمن كسر القاف جعل " مُسْتَقَرّاً " اسم فاعل، والمراد به الأشْخَاصُ، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: فمنكم مُسْتَقرٌّ؛ إما في الأصلاب، أو البطون، أو البقور، وعلى هذه القراءة تتناسقُ " ومستودع " بفتح الدال.

وجوز أبو البقاء في " مُسْتَقِرٌّ " بكسر القاف أن يكون مَكَاناً وبه بدأ.

قال: " فيكون مكاناً يستقر لكم " انتهى.

يعني: والتقدير: ولكم مكان يستقر، وهذا ليس بظاهر ألَبَتَّة؛ إذ المكان لا يوصف بكونه مُسْتَقِرّاً بكسر القاف، بل بكونه مُسْتَقراً فيه.

وأما " مستودَع " بفتحها، فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأوّل: فمنكم مستقر في الأصلاب، ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً، ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني: فمنكم مستقر، ولكم مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث: فمنكم مستقر ولكم استيداع.

وأما من فَتَحَ القاف فيجوز فيه وجهان فقط: أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، أي: فلكم مكان تَسْتَقِرُّونَ فيه، وهو الصُّلْب، أو الرحم، أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدَّم، وينقص أن يكون اسم مفعول؛ لأن فعله قاصر لا يُبْنى منه اسم مفعول به [فيكون اسم مكان والمستقر بمنزله المقر؛ وإن كان كذلك لم يجز أن يكون خبر المضمر " منكم " بل يكون خبره " لكم " فلتقدير لكم, مقر بخلاف] مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة.

وتوجيه قرءاة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في " مستودع " بالكسر على أن يجعل الإنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقه وأجله حتى إذا نَفِدَا كأنه رَدَّهُمَا وهو مجاز حَسَنٌ، ويقوي ما قلته قول الشاعر: [الطويل]

السابقالتالي
2