الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

قوله: وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة.

اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ، فالله - تعالى - لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه أثْبَتَ دليل [التوحيد،] وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة، فقال: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } حين انكروا النُّبُوَّةَ والرسالة، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ. " حَقَّ قَدْرِهِ " منصوب على المَصْدَرِ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبُ عليه مَوْصُوفُهُ، والأصل قدره الحقّ كقولهم: " جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة ".

وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ، وعيسى الثقفي: " قَدَّروا " بتشديد الدَّال " قدَره " بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ. قوله: " إذْ قَالُوا " مَنْصُوبٌ بـ " قدروا " ، وجعله ابن عطية منصوباً بـ " قدره " [وفي كلام ابن عطية ما يشعر بأنها] للتعليل، و " من شيء " مفعول به زيدت فيه " من " لوجود شَرْطَي الزيادة.

فصل في معنى الآية

قال ابن عبَّاسٍ: ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه.

وروي عنه أيضاً أنه قال: معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير.

وقال أبو العَالِيَةِ: ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ.

وقال الأخْفَشُ: ما عرفوه حَقَّ معرفته، وحقَّق الواحدي رحمه الله - تعالى - فقال: قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ، وأراج ان يعلم مقداره يقدره بالضمير قدراً، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: " إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ " أي: فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً: هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ: إنه لا يقدر قَدْرَهُ، فقوله: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه، وهو قولهم: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }.

واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وتقديره من وُجُوهٍ:

الأول: أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول: إنه - تبارك وتعالى - ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [تكليفاً أصلاً] أو يقول: إنه - تبارك وتعالى - كَلَّفَهُمْ، والأول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أنه - تبارك وتعالى - أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح، نحو [شَتْم] الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - والرسل، والإعراض عن شُكْرِ الله - تعالى - ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة، وكل ذلك باطل.

وإن سلم أنه - تعالى - كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [والنهي فهاهنا لا بُدَّ] من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8