" تلك " إشارة إلى الدَّلائل المُتقدِّمة من قوله:{ وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ } [الأنعام:75] إلى قوله:{ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79] وقيل: إشارة إلى القَوْم لمَّا خَوَّفُوهُ بأنَّ آلهتَهُمْ تُخْبِلُهُ لأجل شَتْمِهِ إيَّاهَا، فقال لهم: أفلا تَخَافُونَ أنتم حيث أقْدَمْتُمْ على الشرك باللَّهِ، وسوَّيْتُمْ في العبادة بين الخالقِ العالم ومُدبِّرِهِ، وبين الخشب المَنْحُوتِ. وقيل: إشارة إلى الكُلِّ. ويجوز في " حُجَّتنا " وجهان: أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ، وفي " آتيْنَاهَا " حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، والعامِلُ فيها معنى الإشارة، ويَدُلُّ على ذلك التَّصْرِيحُ بوقوع الحال في نظيرتها. كقوله تعالى:{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [النمل:52]. والثاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَبَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة. والثَّاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَيَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة. والثَّاني من الوَجْهِيْنِ الأوَّلين: أن تكون " حُجَّتُنَا " بدلاً أو بَيَاناً لـ " تلك " ، والخبر الجملة الفعلية. وقال الحوفي: " إن الجملة مِنْ " آتَيْنَاها " في مَوْضِع النعت لـ " حُجَّتُنَا " على نِيَّةِ الانْفِصَالِ؛ إذ التقدير: حُجّة لنا " يعني الانفصال من الإضافة لِيَحْصُلَ التنكيرُ المُسَوِّغُ لوقوع الجُمْلَةِ صِفَةً لـ " حُجتنا " وهذا لا ينبغي أن يقال. وقال أيضاً: إنَّ " إبراهيم " مفعول ثانٍ لـ " آتَيْنَاهَا " ، والمفعول الأول هو " هاء " ، وقد تقدَّم في أوَّلِ البقرةِ، فإنَّ هذا مَذْهب السُّهَيْلِيْ عند قوله:{ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } [البقرة:53]. وأنَّ مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عَاقِلاً، والثاني غيره، ولا يبالى بتقديم ولا تأخير. فصل في الدلالة في الآية قوله: " آتَيْنَاهَا إبْرَاهيمَ " يَدُلُّ على أنَّ تلك الحُجَّةَ إنما حَصَلتْ لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء الله وإظهاره تلك الحُجَّةِ في عَقْلِهِ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الإيمانَ والكُفْرَ لا يَحْصُلانِ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى، ويؤكده قوله: { نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشَاءُ } فإن المراد أنه - تعالى - رَفَعَ درجاتِ إبراهيم بسبب أنه - تعالى - أتاه تلك الحُجَّة. ولو كان حُصُولُ العِلْمِ بتلك الحجة من قبل إبراهيم لا من قِبَلِ اللَّهِ تعالى، لكان إبْراهيمُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - هو الذي رفع درجات نفسه. قوله: " عَلَى قَوْمِهِ " فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَعَلَّقٌ بـ " آياتنا " قاله ابن عطيَّة والحوفي، أي: أظهرناها لإبراهيم على قَوْمِهِ. والثاني: أنها مُتعلِّقَةٌ بمحذوف؛ على أنها حالٌ، أي: آتيناها إبراهيم حُجَّةً على قومه، أو دَلِيلاً على قومه، كذا قدَّرَهُ أبو البقاء، ويلزم من هذا التَّقديرِ أن تكون حالاً مُؤكّدة؛ إذ التَّقديرُ: وتلك حُجَّتنَا آتَيْنَاهَا له حُجَّةً.