هذا بقية الكلام على قوله: " لولا أنزل عليه آية من ربه " فقال الله تعالى: قل لهؤلاء الأقوام: إني بُعِثْتُ مبشّراً ومنذراً وليس لي أن أتَحَكَّمَ على اللَّهِ. واعلم أن القَوْمَ كانوا يقولون: إن كنت رَسُولاً من عند الله فَاطْلُبْ من الله حتى يُوَسِّعَ عَلْينَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وخَيْرَاتِهَا، فقال الله تعالى: قل لهم " إني لا أقول لكم عندي خزائن الله " ، فهو - تعالى - يؤتي المُلْكَ من يشاء، ويُعِزُّ من يَشَاءُ، ويُذِلُّ من يشاء، لا بيدي. الخَزَائنُ: جمع " خزانة " ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخَزْنُ الشيء إحرازه بحيث لا تَنَالُهُ الأيْدِي. قوله: { وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْب } في مَحَلِّ هذه الجملة وَجْهَان: أحدهما: النَّصْبُ عَطْفاً على قوله: { عِنْدِي خزائِنُ ٱللَّهِ } لأنه من جملة المَقُول، كأنه قال: " لا أقُولُ لكم هذا القول، ولا هذا القول ". قال الزمخشري. وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يُؤدِّي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقُولُ لكم: لا أعلم الغَيْبَ وليس بصحيح. والثاني: أنه معطوف على " لا أقول " لا مَعْمُولٌ له، فهو أمَرَ أن يخبر عن نَفْسِهِ بهذه الجُمَلِ الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو " قل " ، وهذا تخريج أبي حيَّان قال بعد أن حكى قول الزَّمخشري: " ولا يتَعيَّنُ ما قاله، بل الظَّاهرُ أنه مَعْطُوفٌ على لا أقول " إلى آخرة. فصل في معنى الآية والمعنى: أن القوم يقولون: إن كنت رَسُولاً من عند اللَّهِ، فلا بُدَّ وأن تخبرنا عمَّا سَيَقَعُ في المستقبل من المَصَالِحِ المضارِّ حتى نَسْتَعِدَّ لتحصيل تلك المنافع، ولدفع تلك المَضَارِّ، فقال تعالى: " قل: إني لا أعلم الغيب ولا أقول: إنّي ملك " ومعناه: أنهم كانوا يقولون:{ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاق } [الفرقان:7] ويتزوج ويخالط الناس، فقال تعالى: قل لهم: إني لست من الملائكة. فصل في بيان فائدة هذه الأحوال اختلفوا في الفائدةِ من ذكر هذه الأحْوَالِ الثلاثة، فقيل: المرادُ منه أن يَظْهِرَ الرسول من نَفْسِه التَّواضُع للّه، والاعتراف بِعُبُوديَّتِهِ حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النَّصارى في المسيح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقيل: إن القوم كاوا يَقْتَرِحُون عليه إظْهَارَ المعجزات القاهرة، كقولهم:{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُر لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء:90] فقال تعالى في آخر الآية:{ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء:93] يعني: أنَا لا أدَّعِي إلاَّ الرسالةَ والنُّبُوَّة، وهذه الأمور التي طلبتموها، فلا يمكن تحصيلها إلاَّ بقدرة الله. وقيل: المُرَادُ من قوله: { لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ ٱللَّهِ } ، أي: لا أدَّعي كوني مَوْصُوفاً بالقُدْرَةِ، ولا أعلم الغَيْبَ، أي: ولا أدَّعي كَوْنِي موصوفاً بعلم الله تعالى، وبمجموع هَذَيْنِ الكلامين حَصَلَ أنه لا يدَّعِي الإلهيَّة.