الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

قوله: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ }: " من " زائدة لوجود الشرطين، وهي مبتدأ، و " إلاَّ أمم " خَبَرُهَا مع ما عطف عليها.

وقوله: " في الأرض " صفة لـ " دابة " ، فيجوز لك أن تجعلها في مَحَلِّ جرِّ باعتبار اللفظ، وأن تجعلها في محل رفع باعتبار الموضع.

قوله: " ولا طائر " الجمهور على جرِّه نَسَقاً على لفظ " دابةٍ ".

وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ برفعها نَسَقاً على موضعها.

وقرأ ابن عبَّاس " ولا طيرٍ " من غير ألف، وقد تقدَّم الكلام فيه، هل هو جَمْعٌ أو اسم جمع؟

وقوله: " يطير " في قراءة الجمهور يَحْتَمِلُ أن يكون في مَحَلِّ جرّ باعتبار لَفْظِهِ، ويحتمل أن يكون في مَحَلِّ رفع باعتبار موضعه.

وأمّا على قراءة ابن أبي عَبْلَةَ، ففي مَحَلِّ رفع ليس إلاّ.

وفي قوله: " وَلاَ طَائر " ذكر خاصّ بعد عامٍّ؛ لأن الدَّابَّةَ تشتمل على كُلِّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره، فهو كقوله:وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة:98] وفيه نظر؛ إذ المُقَابَلَةُ هنا تنفي أن تكون الدَّابة تشمل الطائر.

قوله: " بِجَنَاحَيْهِ " فيه قولان:

أحدهما: أن " الباء " متعلّقة بـ " يطير " ، وتكون " الباء " للاسْتِعَانَةِ.

والثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، وهي حالٌ مؤكّدة كما يقال: " نظرت عيني " ، وفيها رفع مجازٍ يُتَوَهَّمُ؛ لأن الطَّيرانَ يُسْتَعَارُ في السرعة قال: [البسيط]
2156- قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْةِ لَهُمْ   طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانَا
ويطلق الطَّيْرُ على العمل، قال تعالى:وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [الإسراء:13].

وقوله: " إلاّ أمم " خَبَرُ المبتدأ، وجُمِعَ وإن لم يتقدَّمهُ إلاَّ شيئان؛ لأن المراد بهما الجِنْسُ.

و " أمثالكم " صفة لـ " أمم " ، يعني أمثالهم في الأرزاقِ والآجالِ، والموت والحياة، والحشر والنشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها.

وقيل: في معرفة الله وعبادته.

وقال مُجاهد: أصْنَافٌ مصنّفةٌ تُعْرَفُ بأسمائها، يريد أن كلّ جنسٍ من الحيوان أمَّةٌ: فالطير أمَّة، والدَّوابُّ أمَّة, والسِّبَاع أمة, تعرف بأسمائها مثل بَنِي آدَمَ يُعْرَفُون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس، قال عليه الصلاة والسلام: " لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أمَّةٌ من الأمَم لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فاقْتُلُوا مِنْهَا كٌاَّ أسْوَدَ بهيمٍ ".

وقيل: أمثالكم يَفْقَهُ بعضهم عن بعض.

فصل في وجه النظم

وجه النظم أنه - تعالى - بَيَّنَ في الآية أنَّه لو كان إنْزَالُ سائر المعجزات مَصْلَحَةً لهم لفعلها إلاَّ أنه لمَّا لم يَكُنْ إظهارها مَصْلَحَةً للمكلَّفين لم يظهرها، وهذا الجوابُ إنما يَتِمُّ إذا ثبت أنه تعالى يُرَاعي مصالحَ المكلَّفين، ويَتفضَّلُ عليهم بذلك، فبيَّن ذلك وقرَّره بأن قال: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في وصول فَضْلِ الله - تعالى - وعنايتِهِ, ورحمته, وإحسانه إليهم, وذلك كالأمر المُشَاهَدِ المَحْسُوسِ, فإذا كانت آثار عِنَايَتِهِ واصِلَةً إلى جميع الحيواناتِ، فلو كان إظهار هذه المُعْجِزَاتِ مَصْلَحةً للمكلفين لفعلها ولم يَبْخَلْ بها؛ لأنه لم يَبْخَلْ على شيءٍ من الحيوانات بمَصَالِحهَا ومَنَافعِهَا؛ يَدُلُّ ذلك على أنَّه - تعالى - لم يظهر تلك المعجزات؛ لأن إظهارها يُخِلُّ بمصالحِ المكلّفين.

السابقالتالي
2 3 4