الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ }

اعلم أنَّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون المراد منه ذكرُ الدليل على صحة المعاد وصحة الحَشْرِ.

أمَّا الأول فتقريره: أنَّهُ - تعالى - لمَّا اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ السَّمواتِ وتَعَاقُبِ الظُّلماتِ والنُّور على وجود الصَّانع الحكيم أتْبَعَهُ الاسْتِدلالِ بخلقه الإنسان على إثبات هذا المَطْلُوب، فقال: " هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ " ، والمراد منه خلق آدم [لأن آدَمَ خلق] من طِينٍ، وهو أبو البَشَرِ، ويُحتملُ أنَّ [يكون] المراد كَوْنَ الإنسان مَخْلُوقاً من المَنيِّ، ومن دَمِ الطَّمْثِ، وهما يَتَولدَانِ من الدَّمِ، والدَّمُ إنَّما يَتَولَّدُ من الأغْذِية [والأغذية] إمَّا حيوانية أو نَبَاتيَّة، فإن كانت حَيوانِيَّة كان الحالُ في [كيفية] تولُّد ذلك [الحيوان كالحال في كيفية تَوَلُّدِ الإنسان مخلوفاً من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولّدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين.

إذا عرفت هذا فنقول: هذا الطِّينُ قد تَوَلدت النُّطفة منه بهذا الطريق المذكور.

ثم تولّد من النُّطفَة أنواع الأعضاء المختلفة في الصِّفة، والصورة، واللون، والشكل] مثل القلب والدِّماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطةِ كالعظام والغَضارِيفِ والرِّبَاطَاتِ والأوتار تولد الصفات المختلفة في المادة المُتَشَابِهَةِ، وذلك لا يمكنُ إلاَّ بتقْدير مُقدِّرٍ حكيمٍ.

وإن قلنا: المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فلأن خَلْقَ بَدَنِ الإنسان وترتيبه على هذه الصفات المختلفة إنَّما حَصَل بقُدْرَةِ فاعل حكيم، وتلك الحكمة والقدرة باقيةٌ بعد موت الحَيَوانِ، فيكون قادراً على إعَادتِهَا وإعَادَةِ الحياة فيها؛ لأنَّ القادِرَ على إيجادها من العَدَم قادرٌ على إعَادَتِهَا بطريق الأوْلَى.

قوله: " مِنْ طينٍ " فيه وَجْهَان:

أظهرهما: أنه متعلّق بـ " خَلَقَكُمْ " ، و " مِنْ " لابتداء الغَايَةِ.

والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حَالٌ، وهل يحتَاج في هذا الكلام إلى حذف مضاف أم لا؟ فيه خلاف.

ذهب [جماعة] كالمهدويِّ ومكي، إلى أنه لا حَذْفَ، وأنَّ الإنسان مَخْلُوقٌ من الطين.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَولُودٍ يُولَدُ إلاَّ ويُذَّرُ على النُّطْفَةِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ ".

وقيل: إنَّ النُّطْفَةَ أصْلُهَا الطِّينُ كما تقدَّم.

وقال أكْثرُ المُفَسِّرينَ: ثَمَّ محذوفٌ، أي: خَلَقَ أصْلكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقَصَّتُهُ مشهورة.

وقال امرؤ القيس: [الوافر]
2102-إلَى عِرْقِ الثَّرَى رَسَخَتْ عُرُوقِي   وهَذَا المَوْتُ يَسْلُبُنِي شَبَابِي
قالوا: أراد بعِرْقِ الثَّرى آدم عليه الصلاة والسلام لأنَّه أصلُه.

فصل في بيان معنى " خلقكم من طين "

قوله: { خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } [يعني أباكم] آدم خاطبهم به، إذ كانوا من ولدِهِ.

قال السُّديُّ: بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلى الأرض لِيأتِيَهُ بطَائفةٍ منها، فقالت الأرْضُ: إنِّي أعُوذُ باللَّهِ منك أنْ تنقض مني، فرجع جبريل، ولم يأخذ، قال يَا رَبَّ: إنَّها عَاذَتْ بِكَ، فبعث مِيكَائيل فاسْتَعَاذَتْ، فرجع، فبعث ملك الموت، فَعَاذَتْ منه باللَّهِ، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، ثُمَّ عَجَنَهَا بالماء العَذْبِ والمِلْح والمُرّ، فلذلك اختلفت أخلاقهم، فقال اللَّهُ لِمَلكِ الموت:

السابقالتالي
2 3 4