الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ }

لمَّا عرّفه الدِّين المُستقِيم, عرَّفه كيف يقُوم به ويؤدِّيه، وهذ الآية الكريمة تدلُ على أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مؤدِّي العِبَادة مع الإخْلاص، وأكده بقوله - تبارك وتعالى -: { لاَ شَرِيكَ لَه } وهذا من أقْوَى الدَّلائل على أنَّ شَرْط صحة الصَّلاة: أن يُؤتَى بها مَقْرُونةً بالإخْلاصِ.

واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالنُّسُك:

فقيل: المُرَاد به: الذَّبِيحَة بعينها، وجمع بين الصَّلاة وبين النَّحر؛ كما في قوله - تبارك وتعالى -:فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } [الكوثر:2] فقيل: المراد بالصلاة هاهنا صلاة النَّحْر، وقيل: صلاةُ اللَّيْل.

وروى ثَعْلَب عن ابن الأعْرَابيِّ أنه قال: النُّسُك: سَبَائِك الفِضَّة، كل نَسِيكة منها سَبيكة، وقيل للمُتعَبِّد: نَاسِكٌ، لأنه خلَّص نَفْسَه من دَنَائِس الآثَام وصفَّاها، كالسَّبيكة المُخَلَّصَة من الخَبَث، وعلى هذا التَّأويل فالنُّسُك: كل ما يُتَقرَّبُ به إلى الل‍َّه - تبارك وتعالى -، إلاَّ أن الغَالِب عليه في العُرْف: الذَّبْح.

قوله: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ }.

قرأ نافع: " ومَحْيايْ " بسكون ياء المُتكلِّم، وفيها الجَّمع بين سَاكِنَيْن.

قال الفارسي: كقوله: " التَقَتْ حَلْقَتَا البطَانِ " و " لِفُلانٍ ثُلُثَا المَالِ " بثبوت الألفين.

وقد طَعَن بَعْضُ النَّاس على هذه القراءة بما ذَكَرْت من الجَمْع بَيْن السَّاكِنين، وتعجَّبْت من كَوْن هذا القَارئ يُحَرك ياء " مُمَاتِيَ " ويُسَكِّن ياء " مَحْيَايْ " وقد نقل بَعضُهُم عن نافع الرُّجوع عن ذلك.

قال أبُو شامة - رحمة الله عليه -: " فَيَنْبَغِي ألاَّ يَحِلَّ نَقْلُ تسْكِين ياء " مَحْيَايَ " عنه ".

وقرأ نافع في رواية: " مَحْيَايِ " بكسر الياءِ، وهي تشبه قراءة حَمْزَة فيبِمُصْرِخِيَّ } [إبراهيم:22]، وستأتي - إن شاء الله تعالى -.

وقرأ ابنُ أبي إسحاق، وعيسى الجَحْدَرِيُّ: " ومَحْيَيَّ " بإبْدال " الألف " " ياء " ، وإدغَامِها في ياء المُتَكلِّم، وهي لُغة هُذَيْل، أنشد عليها قول أبي ذُؤيْب: [الكامل]
2401- سَبَقُوا هَوَيَّ وأعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ   فَتُخُرِّمُوا ولِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
اعلم: أن المَحيْا والممَاتِ للَّه لَيْس بمعنى أنَّهُما يُؤتَى بِهِمَا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ -، فإن ذلك مُحَال، بَلْ معنى كوْنِهِما للَّه أنَّهُمَا حَاصِلان بِخَلْقِ اللَّه، وذلك مِنْ أدلِّ الدِّلائل على أنَّ طاعة العَبْد مَخْلُوقة منه - تعالى -.

وقال بَعْضُ المفسِّرين: " مَحْيَايَ: بالعمل الصالح, ومَمَاتِي: إذا مِتُّ على الإيمان من رب العَالمِين ".

واعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - أمرَ رسُوله صلى الله عليه وسلم بأن يُبَيِّن أنَّ صلاته، وسَائِر عِباداتِه، وحياته، ومَمَاتِه كُلِّها واقعةٌ بخلق اللَّه - تبارك وتعالى - وبقدره، وقضَائه، وحُكْمِه.

وقال القُرْطُبِيُّ - رحمة الله عليه -: قوله: " ومَحْيَايَ " أي: ما أعْمَله في حَيَاتِي، و " مَمَاتِي " أي: ما أوصِي به بَعْد وَفَاتِي " لِلَّهِ ربِّ العَالمِين " أي: أُفْرِدُهُ بالتَّقَرُّب بها إليه، ثمَّ نصَّ على أنَّه لا شَريكَ لَهُ في الخَلْق، والتقدير، ثم قال: " وبذلِك أمِرْتُ " وبهذا التَّوحيد أمِرْت، ثم يقول: " وأنا أول المُسْلِمين " أي: المُستَسْلِمين لِقضَاء اللَّه وقدَره، ومَعْلُوم أنَّه لَيْس أوَّلاً لكلِّ مُسْلِمٍ، فوجب أن يكُون المراد: كَوْنه أوّلاً لِمُسْلِمِي زَمَانه.

السابقالتالي
2