وقرأ الأخوان: " فَارَقُوا " من المُفَارَقة. قال القرطبي - رحمة الله عليه -: " وهي قِرَاءة عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - من المُفَارقة والفِرَاق، على مَعْنَى: أنَّهُم تركوا دينَهُم وخَرَجُوا عنه، وكان عَلِيٌّ - كرم الله وجهه - يقول: والله ما فَرَّقُوه، ولكن فَارَقُوه ". وقال شهاب الدِّين: فيها وجهان: أحدهما: أن " فَاعَل " بمعنى: فعَّل، نحو ضاعَفْتُ الحساب، وضعَّفته. وقيل: هي من المُفَارَقَة، وهي التَّرْك، والتَّخْلِية، ومن فرَّق دينَهُ؛ فآمن بِبَعْض وكفر ببعض، فقد فَارَقَ الدِّين القيم. وقرأ الباقون: " فرَّقوا " بالتَّشْديد، وقرأ الأعمش، وأبو صالح، وإبراهيم،: " فرَقُوا " مخفف الراء. قال أبو البقاء: " وهو بمعنى المُشَدَّد، ويجُوز أن يكُون بمعنى: فَصَلُوه عن الدِّين الحقِّ " وقد تقدَّم معنى الشِّيع، أي: صَارُوا فِرقاً مختلفة. قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: يريد: المُشْركين، بعضهُم يَعْبُدون الملائكة، ويَزْعُمون أنَّهم بنات اللَّه، وبعضُهم يَعْبدون الأصْنَام، ويقولون: " هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله " و " كانوا شِيَعاً " أي: فِرَقاً وأحزاباً في الضَّلالة. وقال مُجاهدٌ، وقتادة: هم اليَهُود والنَّصَارى؛ لأن النَّصَارى تفرَّقوا فِرَقاً، ويُكَفِّر بعضهم بعضاً، واليهُود أخَذُوا ببعض الكتاب، وتركوا بعضه. وقيل: هم أهْل البِدَع والشُّبُهَات من هذه الأمَّة وروى عُمَر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة - رضي الله عنها -: " يا عائشةُ! إنَّ الذينَ فَرَّقُوا دينَهُم وكانُوا شِيعَاً هُمْ أصْحَابُ البدعِ وأصْحَابُ الأهْوَاءِ من هذه الأمَّةِ ". وروى عبد الله بن عمر- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تفرَّقَتْ على اثْنَيْنِ وسَبْعِين ملَّة، وتفرَّفَت أُمَّتِي على ثلاثٍ وسبْعين ملَّة كُلُّها في النَّارِ إلاَّ واحِدة " ، قال: من هِيَ يا رسُول الله؟ قال: " ما أنا عَلَيه وأصْحَابي " ". قوله: { لَسْتَ مِنْهُم فِي شَيْءٍ }. " لَسْت ": في محلِّ رفع خبراً لـ " إنّ " ، و " مِنْهُم ": هو خبر " لَيْسَ " إذ بِه تتم الفَائِدة؛ كقول النابغة: [الوافر]
2394- إذا حَاوَلْتَ فِي أسَدٍ فُجُوراً
فإنِّي لَسْتُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي
ونظيرُه [في الإثْبَات]: "{ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [إبراهيم:36]. وعلى هذا، فيكُون " فِي شَيْءٍ " متعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به مِنْهُم، أي: لست مُسْتَقِرّاً منهم في شيء، أي مِنْ تَفْرِيقهم. [ويجُوز أن يَكُون " فِي شيءٍ ": الخبر، " ومِنْهُم ": حال مُقدِّمة عليه، وذلك على حَذْفِ مُضافٍ، أي: لَسْت في شيءٍ كَائِن من تَفْرِيقهم]، فلمَّا قُدِّمت الصِّفَة نصبت حالاً. فصل في المراد بالآية في المَعْنَى قولان: الأول: إذا أُريد أهل الأهْوَاء، فالمَعْنَى: أنت بَرِيءٌ منهم، وهم مِنْكَ بَرَاءُ، أي: إنَّك بعيد عن أهْوَائِهِم ومَذاهِبِهم، والعِقَابُ اللاَّزم على تِلْك الأبَاطيل مَقْصُور عَلَيْهم لا يتعدَّاهم. وإن أُريد اليَهُود والنَّصَارى. قال السُّدِّيُّ: " معناه: يقولون يُؤمَر بِقتَالِهم؛ فلما أمر بِقِتَالِهِم نُسِخ " وهذا بعيد؛ لأن المعنى: لَسْت من قِتَالِهِم في هذا الوَقْتِ في شَيْءٍ؛ فوُرُود الأمْر بالقِتَال في وَقْتٍ آخَر، لا يُوجِب النَّسْخ. ثم قال: { إنَّما أمْرُهُم إلى اللَّه } يعني: في الجَزَاء، والمُكَافأة، والإمْهَال، { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } والمراد: الوعيد.