الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

هذا استثناء مُفَرّغ أي: لا تَقَرَبُوه إلا بالخَصْلَة الحُسْنَى، فيجُوزُ أن يَكُون حالاً، وأن يَكُون نَعْتَ مَصْدَر، وأتى بصيغة التَّفْضِيل؛ تنبيهاً على أنَّه يتحرَّى في ذلك، ويَفْعَل الأحْسَن ولا يَكْتَفي بالحَسَن.

قوله: " حَتَّى يَبْلُغ " هذه غاية من حَيْث المَعْنَى، فإن المَعْنى: احْفَظُوا ماله حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ، [ولو جَعلْنَاه غاية للَّفْظِ، كان التقدير: لا تَقْرَبُوه حتى يَبْلُغ] فاقربوه، ولَيْس ذلك مُرَاداً.

قال القرطبي: " وليس بُلُوغ الأشُدِّ مما يُبِيحُ به قُرْب ماله بغير الأحْسَن؛ لأن الحُرْمَة في حقِّ البَالِغ ثابِتَةٌ، وخصَّ اليتيم بالذِّكر؛ أن خَصِيمَهُ الله - تعالى -, والمعنى: لا تَقْرَبُوا مال اليَتيم إلا بالَّتِي هي أحْسَن على الأبَدِ حَتَّى يَبْلُغ أشُدَه، وفي الكلام حَذْف تقديره: فإذا بَلَغَ أشُدَّه وأونِس منه الرُّشْد، فادْفَعُوا إليه مَالَه ".

والأشُدُّ: اختلف النَّحْويُّون فيه على خمسة أوجه:

فقال الفرَّاء: " هو جمع لا وَاحِد له، والأشُدُّ واحدُها " شَدٌّ " في القياس، ولم أسْمَع لها بِوَاحدٍ ".

وقيل: هو مُفْرَدٌ لا جمع، نقل ابن الأنْبَاري ذلك عن بعض أهْل اللَّغَة، وأنه بِمَنْزِلة " الآنُك " , ونقل أبو حيَّان عنه: أن هذا الوَجْه مُخْتَاره في آخرين، ثم قال: " ولَيْس بمختارٍ؛ لفقدان أفْعُل في المُفْرَادَات وضعاً ".

وقيل: هو جَمْع " شدَّة " و " فِعْلَة " يُجْمَع على " أفْعُل "؛ كنِعْمَة وأنْعُم، قاله أبو الهَيْثَم، وقال: " وكأن الهَاءَ في الشِّدَة والنِّعْمَة لم تكن في الحَرْف، إذ كانت زَائِدَة، وكان الأصلُ نِعْم وشِدّ فَجُمِعَا على " أفْعُل "؛ كما قالوا: رِجْل وأرْجُل، وقِدْح وأقْدُح، وضِرْس وأضْرُس ".

وقيل: هو جمع شُدّ [بضم الشِّين نقله ابن الأنْبَارِي عن بعض البَصْرِيِّين؛ قال: كقولك: هو وُدُّ، وهم أوُدٌّ].

وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها، وهو مُحْتَمل.

والمراد هُنَا ببلوغ الأشد: بُلُوغ الحُلُمِ في قَوْل الأكْثَرِ؛ لأنه مَظِنَّة ذلك.

وقيل: هو مَبْلَغ الرِّجَال من الحِيلة والمَعْرِفة. وقيل: هو أن يَبْلغ خمسة عشر إلى ثلاثين.

وقيل: أن يَبْلغ ثلاثة وثلاثين.

وقيل: أرْبَعِين.

وقيل: سِتِّين، وهذه لا تَلِيق بهذه الآيةِ، إنما تليق بقوله - تعالى -:حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف:15] وتقدم منه طرف في النساء.

والأشُدُّ مشتق من الشِّدَّة؛ وهي القُوَّة والجلادة، وأنشد الفرَّاء - رحمه الله تعالى -: [البسيط]
2382- قَدْ سَادَ وهو فَتًى حَتَّى إذَا بَلَغَتْ   أشُدُّهُ وعَلاَ فِي الأمْرِ واجْتَمَعَا
وقال الآخرُ في ذلك: [الكامل]
2383- عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارُ كأنَّمَا   خُضِبَ البَنَانُ وَرَأسُهُ بِالعِظْلمِ
قوله: { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } " الكيل والميزان " هما الآلة التي يُكال بها ويُوزَن، وأصْل الكَيْل: المصْدَر ثم أطْلِق على الآلَةِ، و " الميزان ": مِفْعال من الوزن لهذه الآلةِ؛ كالمِصْبَاح والمقياس لِمَا يُسْتَصْبَحُ به، وما يُقاسُ به، وأصل ميزان: مِوْازن فَفُعِلَ به ما فُعِلَ بمِيقَاتٍ، وقد تقدم في البقرة.

السابقالتالي
2 3