لما بيَّن - تبارك وتعالى - فَسَادَ قَوْل الكُفَّار: " إنَّ الله حرَّم علينا كَذَا وكَذَا " أردَفَه بِبَيَان الأشْيَاءِ التي حرَّمها عليهم. قال الزَّمَخْشَرِي: " تعال " من الخَاصِّ الذي صار عَامّاً، وأصله أن يقوله من كان في مكانٍ عال لِمَن هو أسْفل منه، ثم كَثُر وَعمَّ. قال القرطبي: " وقوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } أي: تقدَّمُوا واقْرَءُوا حقّاً يقيناً؛ كما أوْحَى إليَّ رَبِّي، لا ظنّاً ولا كَذِباً كما زعمتم، ثم بيَّن بعد ذلك فقال: { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } ، يقال للرِّجُل: تعال: أي: تقدّم: ويقال للمرأة: تعالي، ويقال للاثْنَتَيْن والاثْنَيْن: تَعَالَيَا، ولجماعة الرِّجَال: تعالَوْا, ولجماعة النِّسَاء: تَعَالَيْن؛ قال الله - تبارك وتعالى -:{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [الأحزاب:28]. وجعلوا التَّقَدُّم ضرباً من التَّعَاليِ والارتفاع؛ لأنَّ المأمُور بالتقدّم في أصْل وضْعِ هذا الفِعْل، كأنه كان قَاعِداً فقيل له تَعَالَ، أي: ارفع شخْصَك بالقِيَام وتقدم؛ ثم اتَّسَعُوا فيه حتى جَعَلُوه للوَاقِفِ والمَاشِي؛ قال الشَّجَريّ. قوله: { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } في [ " ما " ] هذه ثلاثة أوجُه: أظهرها: أنها مَوْصُولةٌ بمعنى " الَّذِي " والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: الذي حَرَّمَه، والموْصُول في محلِّ نصْبٍ مَفْعُولاً به. الثاني: أن تكون مَصْدَريَّة، أي: أتْل تَحْريم ربِّكُم، ونفس التَّحْرِيم لا يُتْلَى، وإنما هو مَصْدرٌ واقعٌ موقع المَفْعُول به، أي: أتلُ مُحَرَّمَ ربِّكم الذي حرَّمه هو. والثالث: أنها استِفْهَاميَّة، في محلِّ نَصْبٍ بـ " حَرَّم " بعدها، وهي مُعَلقة لـ " أتْلُ " والتَّقْدير: أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم، وهذا ضعيف؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها. فصل قال القرطبي: هذه الآية أمْرٌ من الله - تعالى - لنبِيِّه - عليه السلام - بأن يَدْعُوَ جميع الخَلْقِ إلى سَمَاعِ تِلاوَة ما حرَّم الله - تبارك وتعالى -, وهكذا يَجِب على من بَعْدَه من العُلَمَاء أن يبَلِّغُوا النَّاس، ويُبَيِّنُوا لهم ما حُرِّمَ عليهم مما أحِلَّ؛ قال - تعالى -:{ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران:187]. قال الرَّبيع بين خيثم لجَلِيس له: " أيَسُرُّك أن تَقْرَأ في صَحِيفَةٍ من النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يُفَكَّ كِتَابُها؟ قال: نعم، قال: فاقْرَءُوا: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } إلى آخر الثَّلاث آيَاتٍ ". قال كعبُ الأحْبَار: وهذه السُّورة مفتتح التَّوْرَاةِ: بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآية الكريمة. وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: هذه الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ التي ذكرها الله - تعالى - في سُورة " آل عمران " أجمعت عليها شرائِعُ الخَلْق، ولم تُنْسَخ قط في مِلَّةٍ، وقد قيل: إنَّها العَشْر كلمات المُنَزَّلة على مُوسَى - عليه الصلاة والسلام -.