الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } * { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }

لما حكى عن أهْلِ الجاهِليَّة إقدامهم على الحُكْم في دين اللَّه بغير دَلِيل - حكى عُذْرَهُم في كلِّ ما يُقْدِمُون عليه من الكُفْرِيَّات، فيقولون: لَوء شَاء الله مِنَّا ألا نَكْفُر، لمَنَعَنَا عن هذا الكُفْرِ، وحيث لم يَمْنَعْنَا عنه، ثبت أنه مُرِيدٌ لذلك، وإذا أراده مِنَّا، امتنع مِنَّا تركُه، فكُنَّا مَعْذُورين فيه.

واعلم أن المُعْتَزِلَة اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على مَذْهَبِهم من سبعة أوجه:

أحدها: أنه - تعالى - حَكَى عن الكُفَّار صَرِيح قول المُجَبرة، وهو قولهم: " لَوْ شَاء اللَّه مِنّا ألاَّ نُشْرِك، لم نُشْرِك " ، وإنَّمَا حَكَاهُ عنهم في مَعْرِض الذَّمِّ والقبح، فوجب كوْن هذا المَذْهَب مذمُوماً باطِلاً.

وثانيها: أنه - تبارك وتعالى - قال بَعْدَه: " كَذَّب " وفيه قراءتان: التَّخفيف والتثقيل.

أما قراءة التخفيف: فهي تَصْرِيح بأنَّهم قد كَذَبُوا في ذلك القَوْل، وذلك يَدُلُّ على أن قول المُجبِّرة في هذه المسْألة كذبٌ.

وأمَّا قِرَاءة التَّشْدِيد: فلا يمكن حَمْلُها على أن القَوْم استوجَبُوا الذَّمَّ بسبب أنَّهُم كذَّبُوا هذا المَذْهِب؛ لأنا لو حَمَلْنا الآية عليه، لكان هذا المعنى ضِدّاً للمعْنَى الذي يَدُلُّ عليه قراءة " كَذَبَ " بالتَّخْفِيف، فتصير إحدى القراءَتَيْن ضِدَّ الأخْرى، وإذا بَطَل ذلك، وجب حَمْلُه على أن المُرَادِ منه: على ان كُلَّ من كذَّب نَبِيّاً من الأنْبِيَاء في الزَّمَان المتقدَّم، فإنما كذَّبه بهذا الطَّريق؛ لأنه يَقُول: " الكل بِمَشِيئَة الله، فهذا الذي أنا عَلَيْه من الكُفْرِ إنما حَصَل بمشِيئَة الله - تعالى -، فلم يَمْنَعْنِي منه " وإذا حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه، صارت القِرَاءة بالتَّشْدِيد مؤكَّدة للقِرَاءَة بالتَّخْفيف، فيصير مجمُوع القِرَاءَتَيْن دالاً على إبْطَال قَوْل المُجَبَّرة.

وثالثها: قوله - تبارك وتعالى - بعده: { حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا } وذلك يدُلُّ على أنَّهم استوجبوا الوَعِيد من اللَّهِ؛ بذِهَابِهم إلى هذا الوَجْهِ.

ورابعها: قوله - تعالى - بعده: { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } , وهذا اسْتِفْهَامٌ على وجه الإنْكَار، وذلك يدلُّ على أنَّ هذا القائل بهذا القَوْل لَيْس لَهُ فِيه حُجَّة، فدلّ على فَسَادِه؛ لأن الحقَّ على القَوْل به دَلِيل.

وخامسها: قوله - تعالى - بعده: { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } مع أنه - تعالى - ذم الظّنَّ بقوله - تعالى -:إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [يونس:36] ونظائره.

وسادسها: قوله: { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } ، والخَرْص أكبر أنواع الكَذِب، قال - تعالى -:قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } [الذاريات:10].

وسابعها: قوله - تعالى - بعده: { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَة } وتقديره: أنَّهُم احتجوا في دَفْع دَعْوى الأنْبِيَاء على أنْفُسِهِم بأن قَالُوا: كل ما حَصَلَ فَهُو بمشِيئَةِ اللَّه - تعالى -، وإذا شَاءَ اللَّه مِنَّا ذلك، فكَيْف يمكننا تَرْكُهُ؟ وإذا كُنَّا عاجِزِين عن تَرْكه، فكيف يَأمُرُنا بترْكِهِ؟ وهل في وُسْعِنا وطاقََتِنا أن نأتي بِفِعْل على خلاف مَشِيئَة اللَّه - تعالى -، فهذا هو حُجَّة الكُفَّارِ على الأنْبِيَاء، فقال - تعالى -: { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَالِغَةُ } وذلك من وجهين:

الأول: أنه - تعالى - أعْطَاكُم عُقُولاً كامِلَة، وأفْهَاماً وافيةً، وآذَاناً سامِعَةً، وعيوناً بَاصِرَةً، وأقدَرَكُم على الخَيْر والشَرِّ، وأزال الأعْذَار والمَوانِع بالكُلِّيَّة عنكم، فإن شِئْتُم ذهبتم إلى الخَيْرَات، وإن شِئْتُم ذهبتم إلى عَمَلِ المَعاصِي والمنْكَرَاتِ، وهذه القُدْرَةِ والمُكْنَة معلُومة الثُّبُوت بالضَّرُورَة، وزَوَال المَوانِع والعَوائِق معلوم الثُّبُوت أيضاً بالضَّرُورة، وإذا كان الأمْر كذلك، كان ادِّعَاؤُكم أنَّكم عَاجِزُون عن الإيمان والطَّاعة دَعْوى بَاطِلة، فَثَبَت بما ذَكَرْنا أنه لَيْس لكم، على اللَّه حُجَّة، بل لله الحجَّة البَالِغَة عليكم.

السابقالتالي
2 3 4 5