الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } * { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ }

لما بيَّن ثواب المطيعينَ وعقاب العاصين، وبيَّن أن لكلِّ قوْم درجة مَخْصُوصَة في الثَّواب والعقابِ، بيَّن أنه غَيْر مُحْتَاج إلى ثوابِ المطيعين، أو ينْتَقِص بِمَعْصية المذنِبِين؛ لأنه - تعالى - غنِيٌّ لذاته عن جَمِيع العَالمين، ومع كوْنه غَنِياً، فإنَّ رحمته عامَّة كَامِلَة.

قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: ذُو الرَّحْمَة بأوْلِيَائه وأهل طاعته.

قوله: { وربُّك الغِنِيُّ } يجوز أن يكون الغَنِيُّ والرَّحْمَة خَبَريْن أو وصفين، و " إن يشأ " وما بَعْدَهُ خبر الأوَّل، أو يكون " الغَنِيّ " وصْفاً و " ذُو الرَّحْمَة " خبراً، والجُمْلَة الشَّرطيَّة خبر ثاني أو مُسْتَأنَف.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قالت المعتزلة: هذه الآية الكريمة دالَّة على كَوْنه عادِلاً منزَّهاً عن فِعْلِ القَبِيح، وعلى كَوْنه رَحِيماً مُحْسِناً بعِبَادِه؛ لأنه - تبارك وتعالى - عَالم بقبح القَبَائِح، وعالم بكوْنه غَنِيًّا عنه, وكُلُّ من كان كذلك, فإنَّه مُتَعالٍ عن فِعْلٍ القَبيحِ, وتَقْريره من ثلاثة أوْجُه:

أحدها: أن في الحوادث ما يكُون قَبِيحاً؛ كالظُّلم والسَّفَه والكَذِب والعَبَثِ, وهذا غير مَذْكُورٍ في الآيَةِ لغَاية ظُهُوره.

وثانيها: أنه - تعالى - عالمٌ بالمعْلُومات؛ لقوله:وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:132].

وثالثها: أنه - تعالى - غَنِيٌّ عن الحاجاتِ؛ لقوله: { وربُّكَ الغَنِيُّ } وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدِّمَات، ثبت أنه عَالِمٌ بُقُبْح القَبَائح وعَالِمٌ بكون غَنِيًّا عنها، وإذا ثبت هذا، امْتَنَع كوْنه فَاعِلاً لها؛ لأن المُقْدِم على فِعْل القَبيح إمَّا أن يكُون إقْدَامُه لجَهْلِهِ بكونه قِبيحاً، وإما لاحْتِيَاجِهِ،فإذا كان عَالِماً بالكُلِّ، امْتَنَعَ كَوْنه جَاهِلاً بقُبْح القَبَائِح، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - منزَه عن فِعْل القَبيح، فحينئذٍ يقْطَع بانه لا يَظْلِم أحَداً فلما كَلَّف عَبِيدَه الأفْعَال الشَّاقَّة، وجب أن يُثِيبَهُم عليها، ولما رتَّب العِقَاب على فِعْل المَعَاصي، وجب أن يَكُون عَادِلاً فيها، فحينئذٍ انتفى الظُّلْمُ عن اللَّه - تعالى -، فما الفائدة في التكليف؟.

قال ابن الخطيب: والجوابُ أن التكْلِيفَ إحْسَانٌ ورَحْمَة على ما قُرِّر في كُتُب الكلام. قوله: { إنْ يَشَأ يُذْهِبْكُم } فقيل: المراد يُهْلِككُمْ يا أهْل مكَّة، وقيل: يُمِيتُكُم، وقيل: يحتَمَلُ ألاَّ يُبْلِغَهُم مَبْلَغ التَّكْلِيف، ويَسْتَخْلِف من بعد إذْهَابِكُم؛ لأن الاسْتِخْلاف لا يَكُون إلى على طَرِيق البَدَلِ.

قوله: { مَا يَشَاءُ } يجُوز أن تكُون " مَا " واقِعَة على ما هُو من جِنْسِ الآدَميِّين، وإنَّما أتى بـ " مَا " وهي لِغَيْر العَاقِل للإبْهَام الحَاصِل، ويجُوزُ أن تكُون وَاقِعَة على غَيْر العَاقِل وأنَّه يأتي بجِنْسٍ آخر، ويجُوز أن تكُون وَاقِعَة على النَّوْع من العُقَلاء كَمَا تقدَّم.

قوله: { كَمَا أنْشَأكُمْ } فيه وجهان:

أحدهما: أنه مَصْدَر على غِيْرِ المَصْدَر؛ لقوله: " ويَسْتَخْلِفْ " لأن مَعْنَى " يَسْتَخْلِفْ ": يُنْشىِءُ.

السابقالتالي
2