الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ }

لما بين حال من يتمسَّكُ بالصِّراط المسْتَقِيم، بيَّن بعده حال من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك؛ ليكون قِصَّة أهْل الجنَّة مُرْدَفَة بقِصَّة أهْل النَّارِ، وليَكُون الوَعِيدُ مذْكُوراً بعد الوَعْدِ.

قوله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم } يَجُوز أن يَنْتَصِب بفِعْل مقَدَّر، فقدَّره أبو البقاءِ تارة بـ " اذْكُرْ " وتارة بالقَوْلِ المَحْذُوف العَامِل في جُمْلَة النِّداءِ من قوله: " يَا مَعْشَر " أي: ويقُول: " يا مَعْشَر يَوْمَ نَحْشُرُهُم " ، وقدَّره الزَّمَخْشَرِي: " ويَوْمَ يَحْشُرُهم وقلنا يا معشر كان ما لا يُوصَفُ لفظَاعتِهِ ".

قال أبُو حيَّان: " وما قُلْنَاه أوْلَى " يعني: من كَوْنِه مَنْصُوباً بـ " يَقُولُ " المحكي به جُمْلَة النِّداء، قال: " لاسْتِلْزَامِه حذف جُمْلَتَيْن: إحْداهما جُمْلَة " وقُلْنَا " ، والأخْرى العَامِلة في الظَّرْف " وقدَّره الزَّجَّاج بفِعْل قَول مبْنِي للمفْعُول: " يقال لَهُم: يا مَعْشَر يَوْم نَحْشرهُم " وهو مَعْنًى حَسَن؛ كأنه نَظَر إلى مَعْنَى قوله: " ولا يُكَلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهم " فبَنَاه للمفْعُول، ويجوز أن يَنْتَصب " يَوْمَ " بقوله: " وَلِيُّهُم " لما فِيهِ من مَعْنَى الفِعْل، أي: " وهُوَ يتولاَّهُم بما كَانُوا يَعْمَلُون، ويتولاَّهُم يوم يَحْشُرُهُم " ، و " جَمِيعاً " حَالٌ أو تَوْكِيدٌ على قَوْل بَعْض النَّحْويِّين.

وقرأ حفص: " يَحْشُرُهُم " بياء الغَيْبَة رداً على قوله: " ربهم " أي: " ويوم يَحْشرُهُم ربُّهُم " والضِّمِيرُ في " يَحْشُرُهُم " يعود إلى الجنِّ والإنْسِ بجمعهم في يَوْم القِيامَةِ.

وقيل: يعود إلى الشَّياطينِ الَّذِين تقدم ذِكْرُهم في قوله:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ } [الأنعام:112].

قوله: " يا مَعْشَر " في مَحَلِّ نصْبٍ بذلك القَوْل المضْمَر، أي: " نقول أو قُلْنَا " ، وعلى تَقْدير الزَّجَّاج يكون في مَحَلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفَاعِل المَنُوب عَنْهُ، والمعشر: الجَمَاعةَ؛ قال القائل: [الوافر]
2311- وأبْغَضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فِيهِ   لِسَانِي مَعْشَرٌ عَنْهُم أذُودُ
والجمع: مَعَاشِر؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: " نَحْنُ مَعَاشِر الأنْبيَاء لا نُوَرَّث " قال الأودي: [البسيط]
2312- فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَومِهِمُ   وإنْ بَنَى قَوْمُهُم مَا أفْسَدُوا عَادُوا
قوله تعالى: " مِنَ الإنْسِ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: أوْلِيَاؤهُم حال كَونهم من الإنْسِ, ويجُوز أن تكُون " مِنْ " لبَيَانِ الجِنْس؛ لأن أوْلِيَاءَهُم كانوا إنْساً وجِناً، والتقدير: أوْلِيَاؤهم الذين هم الإنْسُ، و " ربِّنا " حُذِفَ منه حَرْف النِّدَاء.

وقوله: { وَقال أوْلِيَاؤهُم مِّنَ ٱلإنْس } يعني: أوْلياء الشَّياطين الَّذِين أطاعُوهُم من الإنْسِ، { ربَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض } والمَعْنَى: استَكْثَرْتُم من الإنْسِ بالإضلالِ والإغْواء، أي: أضْلَلْتُم كَثِيراً.

وقال الكَلْبِيّ: استِمْتَاع الإنْس بالجنِّ هو الرَّجُل كان إذا سَافر وتُرِكَ بأرض قَفْر، وخاف على نَفْسِهِ من الجِنِّ، قال: أعوذ بسَيِّد هذا الوَادِي من سُفَهاء قَوْمه، فيبيتُ آمناً في جوارهم، وأما استِمْتَاعُ الجنِّ بالإنْسِ، فهو أنَّهُم قالُوا: قد سَعْدْنَا الإنس مع الجِنِّ، حتى عاذوا بِنَا فَيَزْدَادوا شَرَفاً في قَوْمِهِم وعظماً في أنْفُسِهِم، كقوله - تبارك وتعالى -:

السابقالتالي
2 3 4 5