الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ }

لمّا حَكَى عن الكُفَّار أنَّهم أقْسَمُوا باللَّه جَهْد أيْمانهم، لَئِن جَاءَتْهُم آية، ليُؤمِنُنَّ بها، وأجاب عَنْه: بأنه لا فَائِدة في إظْهَار تلك الآيَات؛ لأنَّه - تعالى - لو أظْهَرَهَا، لبقوا مُصِرِّين على كُفْرِهم، بيَّن في هذه الآيَة أنَّ الدَّلِيل الدَّالَ على نُبُوته، قد حَصَل فكلُّ ما طَلَبُوه من الزِّيادة، لا يَجب الالْتِفَات إليه.

قوله: " أفَغَيْرَ " يجوز نَصْب " غَيْرَ " من وَجْهَين:

أحدهما: أنَّه مَفْعُول لـ " أبْتَغي " مقدَّماً عليه، ووَلِيَ الهَمْزَة لما تقدَّم في قوله:أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } [الأنعام:14] ويكُون " حَكَماً " حينئذٍ: إمَّا حالاً، وإمَّا تَمْيِيزاً لـ " غَيْر " ذكره الحُوفِيُّ: وأبُو البَقَاء، وابْنُ عَطِيَّة؛ كقولهم: " إنَّ لَنَا غَيْرَها إبلاً ".

الثاني: أن يَنْتَصِب " غَيْرَ " على الحَالِ مِنْ " حَكَماً: لأنَّه في الأصْل يَجُوز أن يَكُون وَصْفاً له، و " حَكَماً " هذا المَفْعُول به؛ فتحصَّل في نَصْب " غَيْر " وجهان، وفي نصب " حَكَماً " ثلاثة أوجه: كونه حالاً، أو مَفْعُولاً، أو تَمْيِيزاً. والحَكَمُ أبلغ من الحَاكِم.

قيل: لأنَّ الحَكَمَ لا يَحْكُم إلا بالعَدْل، والحاكم قد يَجُوز، ومَعْنى الآية الكريمة: قُلْ لَهُم يا محمَّد: أفَغَير اللَّه أطْلب قَاضياً بَيْنِي وبَيْنَكُم, وذلك أنَّهم كَانُوا يَقُولُون للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجعل بَيْنَنا وبَيْنَك حَكَماً، فأجابَهُم به.

قوله: { وهُو ٱلَّذِي أنْزَلَ } هذه الجُمْلة في مَحَلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعِل: " أبْتَغِي " ، و " مُفَصَّلاً ": حَالٌ من " الكِتَاب " أي مُبيَّناً فيه أمْرُه ونهيه، والمراد بالكِتَاب: القُرآن العَظِيم، وقيل " مُفَصَّلاً " أي: خَمْساً خَمْساً، وعَشْراً عَشْراً، كما قال:لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [الفرقان:32].

وقوله: { وَٱلَّذِينَ آتيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ }: مُبْتَدأ، و " يعْلَمُونَ ": خَبَره، والجُمْلَة مُسْتَأنَفَة، والمراد بِهِم: عُلَماء اليَهُود والنَّصارى الذين آتيْناهم التَّوْراة والإنْجِيل.

وقيل: هم مُؤمِنوا أهل الكِتَاب، وقال عطاء: رُؤسَاء أصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالكِتَاب: القُرْآن العَظِيم، يَعْلَمون أنه مَنَزَّلٌ.

قرأ ابنُ عامر، وحَفْص عن عاصم: " مُنَزَّل " بتشْدِيد الزَّاي، والباقُون بِتَخْفِيِفِها، وقد تقدَّم: أنَّ أنزل ونزَّل لُغَتَان، أو بَيْنَهُما فَرْق، و " من ربِّك " لابْتِداء الغَايةِ مَجازاً، و " بالحقِّ " حال من الضَّمِير المُسْتكنِّ في " مُنَزَّل " أي: مُلْتَبِساً بالحَقِّ، فالباء للمُصَاحَبَة.

قوله: { فَلاَ تكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } أي: من الشَّاكين أنَّهم يَعْلَمُون ذلك.

وقيل: هذا من بابِ التَّهْييج والإلْهَاب؛ كقوله - تعالى -:وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام:14].

وقيل: هذا خِطَاب لِكُلِّ أحد، والمعنى: لما ظهرت الدَّلائِل، فلا يَنْبَغِي أنْ يَمْتِرِي فيه أحَد.

وقيل: هذا الخِطَاب وإن كان في الظَّاهِر للرَّسُول، إلاَّ أن المراد أمته.