الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }

الكاف في " كَذِلِك " في محلِّ نَصْب، نعتاً لِمَصْدَر مَحْذُوف، فقدَّره الزَّمَخْشَري: " كما خَلَّيْنا بَيْنَك وبين أعْدَائِك، كذلك فَعَلْنا بِمَنْ قَبْلك ".

وقال الوَاحِدي: " وكذلك " منسُوقٌ على قوله: " وكَذَلِكَ زَيَّنَّا " أي: فَعَلْنا ذَلِك كذلك " جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عَدُوًّا " ، ثم قال: وقيل: مَعْنَاه جَعَلْنا لَكَ عَدُوًّا كما جَعْلْنا لمن قَبْلَك من الأنْبِيَاء، فَيَكُون قوله: " وكذلك " عَطْفاً على مَعْنَى ما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ مَعْنَاهُ على أنَّه جعل له أعْدَاء [والمراد: تَسْلِيَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم، أي: كما ابتُليت بِهَؤلاء القَوْم، فكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلك أعْدَاء].

و " جَعَلَ " يتعدى لاثْنَيْن بمعنى: صَي‍َّر. وأعْرَب الزَّمَخْشَري، وأبو البقاء والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله تعالى:وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } [الأنعام:100] فَيَكُون المَفْعُول الأول " شَيَاطِين الإنْس " ، والثاني " عَدُواً " ، و " لكلِّ ": حال من " عَدُواً " لأنَّه صفته في الأصْل، أو مُتعلِّق بالجَعْل قَبْلَه، ويَجُوز أن يكون المَفْعُول الأول " عُدُوّاً " و " لكلِّ " هو الثَّانِي قُدِّم، و " شياطين ": بَدَل من المفعول الأوّل.

والإضافة في: " شَيَاطِين الإنْس " يحتمل أن تكون من بابِ إضافَة الصِّفةِ لِمَوْصُوفها، والأصْل: الإنْس والجن الشَّياطين، نحو: جَرْد قَطِيفَة، ورجَّحْتُه؛ بأنَّ المقصود: التَّسلِّي والاتِّسَاءُ بمن سَبَق من الأنْبِيَاء، إذ كان في أمَمِهم مَنْ يُعادِلُهم، كما في أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكُون من الإضافة الَّتِي بَمَعْنَى اللام، وليست من بابِ إضافة صِفَة لِمَوصُوف، والمعنى: الشَّياطين التي للإنْس، والشَّياطين التي لِلْجِنّ، فإن إبْليس قَس‍َّم جُنْده قسمين: قِسْمُ مُتسَلِّط على الإنْسِ، وآخر على الجِنِّ، كذا جاء في التَّفْسِير. ووقع " عَدُواً " مفعولاً ثَانِياً لـ " شَيَاطِين " على أحَد الإعْرَابَيْنِ بِلَفْظ الإفْراد؛ لأنَّهُ يُكْتَفى به في ذلك، وتقدَّم شَوَاهِده، ومِنْه ما أنْشَده ابن الأنْبَارِي: [الطويل]
2286- إذَا أنَا لَمْ أنْفَعْ صَدِيقِي بِوُدِّهِ   فإنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي
فأعاد الضَّمير مِنْ " يَضُرَّهُم " على " عَدُوّ " فدل على جَمْعِيَّته؛ وكقوله تعالى:ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [الذاريات:24]أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ } [النور:31]إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر:2، 3].

وقيل لا حَاجَة إلى هذا التَّكْليف، والتَّقْدِير وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ واحد من الأنْبِيَاء عُدُوّاً واحِداً، إذ لا يَجِبُ أن يَكُون واحدٍ من الأنْبِيَاء أكْثَر من عُدو‍ّ واحد.

فصل في دلالة الآية

دلَّ ظاهِر قوله - تعالى -: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً } على أنَّه - تبارك وتعالى - هو الذي جَعَل أولَئِك الأعْداء أعْدَاءً للنَّبِي صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أن تلك العدَاوة مَعْصِيَة وكُفْر، فهذا يَقْتَضِي أن خَالِق الخَيْر، والشَّر، والطَّاعة، والمَعْصِيَة، والإيمان والكُفْر هُو اللَّه تعالى.

السابقالتالي
2 3