الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

اعلم: أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في هذه الآية الكَرِيمة تَفْصِيل ما ذَكَره مُجْمَلاً في قوله:وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام:109] بيَّن أنَّه - تعالى - لو أعْطَاهُم ما طَلَبُوه من إنْزَال المَلائِكة حتَّى رأوهم عَيَاناً، وإحياء المَوْتَى حَتَّى كلَّمُوهُم، وشَهِدُوا لك بالنُّبُوَّة كَمَا سَألُوا، بل زَاد في ذَلِك ما لا يَبْلُغُه اقْتِرَاحُهم بأن يحشر عَلَيْهم كُلَّ شَيءْ قُبُلاً، ما كانوا لِيُؤمِنُوا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه.

قال ابن عبَّاسٍ: المُسْتَهْزِئون بالقُرآن العَظِيم كانوا خَمْسَة: الوَليد بن المُغْيرَة المَخْزُومي، والعَاص بن وَائِل السَّهْمِي، والأسْوَد بن عَبْد يَغُوث الزُّهرِي، والأسْوَد بن المُطَّلِب، والحَارث بن حَنْظَلة، ثُمَّ إنَّهم أتَوا لرِسَول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورَهْط من أهْل مكَّة المُشَرَّفة، وقالُوا: أرنَا المَلائكة يَشْهَدُوا بأنَّك رسُول اللَّه، أو ابعث لَنَا بَعَضَ مَوْتَانَا حتَّى نَسْألهم أحَقٌّ ما تقُولُه أمْ باطل، أو ائْتِنَا باللَّه والملائكة قِبِيلاً، أي: كَفيلاً بما تدَّعِيه، فَنَزَلت هَذِه الآية الكَرِيمة.

وهذا يُشْكَل باتِّفَاقهم على أنَّ هذه السُّورة نزلت دَفْعَة وَاحِدة، بل الَّذِي يَنْبَغِي أن يَكُون المَقْصُود منه: جواب ما ذَكَرَهُ بَعْضُهم، وهو أنَّهُم أقسموا باللَّه جَهْد أيْمَانهم، لَوْ جاءتهم آيَةٌ ليُؤمِنُنّ بها، فذكر اللَّه - تبارك وتعالى - هذا الكلام بياناً لِكَونِهم كَاذِبِين، وأنَّه لا فَائِدة في إنْزالِ الآيَات، وإظْهار المُعْجِزَات بعد المُعْجِزَات، بل المُعْجِزة الوَاحِدة لا بُد منها لِيتَمَيَّز الصَّادق عن الكَاذِب، فأمَّا الزيادة عليها، فتحكم مَحْض لا حَاجَة إليْه، وإلاَّ فَلَهُم أن يَطْلُبوا بعد ظُهُور المُعْجِزة الثَّانية ثالثة، وبعد الثَّالثة رَابِعة، ويَلْزم منه ألاَّ تَسْتَقِرَّ الحجة، وأن لا يَنْتَهِي الأمْر إلى مقطع ومفصل، وذلك يُوجِب سَدَّ باب النُّبُوات.

قوله: " قُبُلاً " قرأ نَافِع، وابْن عَامِر: " قِبَلاً " هنا وفي الكَهْف بكسر القَافِ، وفَتْح البَاء، والكوفِيُّون هنا وفي الكَهْف، وقرأ الحسن البَصْرِي، وأبُو حَيْوة، وأبُو رَجَاء بالضَّمِّ والسُّكُون.

وقرأ أبَيّ والأعْمَش " قَبِيلاً " بياء مُثَنَّاة من تَحْت بعد بَاءٍ موحَّدة مَكْسُورة، وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف: " قَبْلاً " بفتح القَافِ وسُكون البَاء.

فأما قِرَاءة نَافِع، وابن عَامِر ففيها وجهان:

أحدهما: أنَّها مُقَابَلَة، أي: مُعَايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتِصَابُه على هذا الحَالِ قاله أبو عُبَيْدة، والفرَّاء، والزَّجَّاج ونقله الوَاحِدِي أيضاً عن جَمِيع أهْل اللُّغة، يُقَال: " لَقِيته قِبَلاً " أي عِيَاناً.

وقال ابن الأنْبَاري: " قال أبُو ذَرّ: قُلْت للنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنبيّاً كان آدم؟ فقال: نعم، كان نبيّاً كلَّمه الله قبلاً " وبذلك فسًّرها ابن عبَّاس، وقتادة، وابن زَيْد، ولم يَحْكِ الزَّمَخْشَرِي غَيْره، فهو مَصْدر في مَوْضَع الحَال كما تقدَّم.

والثاني: أنَّها بمعنى نَاحِية وجِهَة قاله المُبَرِّد، وجماعة من أهل اللُّغَة كأبي زَيْد، وانتصابه حينئذٍ على الظَّرْف، كقولهم: " لي قِبَلُ فلان دَيْنُ " و " ما قِبَلك حَقُّ " ويقال: " لقِيْتُ فلاناً قِبَلا، ومُقابلة، وقُبُلاً، وقُبَلاً وقَبْلِياً، وقَبِيلاً " كله بِمَعْنَى واحد، ذكر ذلك أبُو زيد، وأتْبَعه بِكَلام طويل مُفيد فرحمه الله - تعالى - وجزاه اللَّه خيراً.

السابقالتالي
2 3 4