الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ }

قوله تعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى، حَذَّرَ القوم في هذه الآية، وقال لرسوله: قل لهم: لا تغتروا بما وَصَلْتُمْ إليه من الدنيا ولذَّاتها، بل سيروا في الأرض لتعرفُوا صحة ما أخبركم الرسولُ عنه من نزول العذاب بمن كذب الرسل من الأمم السَّالفة قبلكم. يحذر كفار " مكّة " ، ويحتمل هذا السير أنْ يكون بالعقول والفِكَرِ، ويحتمل السَّيْرَ في الأرضِ.

قوله: " ثُمَّ انْظُرُوا ": عطف على " سِيرُوا " ولم يجئ في القرآن العطف في مثل هذا الموضوع إلاَّ بالفاء، وهنا جاء بـ " ثم " فيحتاج إلى فَرْقٍ.

فذكر الزمخشري الفرق وهو: أنْ جَعَل النَّظَرَ مُسَبَّباً عن السَّيْرِ في قوله: " فانْظُرُوا " كأنه قيل: سِيُروا لأجْلِ النظرِ، ولا تسيروا سَيْرَ الغافلين.

وهنا معناه إبَاحَةُ السَيَّرِ في الأرض للتجارة وغيرها من المَنَافِع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه على ذلك بـ " ثمَّ " لِتَبَاعُدِ ما بين الواجب والمباح.

قال أبو حيَّان - رضي الله عنه -: وما ذكر أوَّلاً مُتَنَاقض؛ لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السَّيْرِ، فكان السَّيْرُ سبباً للنَّظَرِ، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجْلِ النَّظَرِ، فجعل السَّيْرَ مَعْلُولاً بالنَّظَرِ، والنَّظَرِ، سَبَبٌ له فَتَنَاقَضَا، ودعوى أن " الفاء " سببيةٌ دعوى لا دَلِيلَ عليها وإنَّما مَعْنَاها التَّعْقِيبُ فقط، وأمَّا " زَنَى ماعِز فَرُجم " فَفَهْمُ السببية من قَرِينَةٍ غيرها.

قال: " وعلى تقدير [تَسْلِيم] إفادتها السَّبَبَ، فَلِمَ كان السيرُ هنا سَيْرَ إباحةٍ، وفي غيره سَيْرَ إيجاب؟ ".

وهذا اعتراض صحيح إلاَّ قوله: " إنَّ " الفاء " لا تفيد السَّبَبِيَّةَ " فإنه غيرُ مُرْضٍ، [ودليله في غير هذا الموضع] ومثلُ هذا المكان في كون الزَّمَخْشَرِيّ جعل شيئاً عِلَّةً، ثم جعله مَعْلولاً، كما سيأتي إن شاء الله - تعالى - في أوَّلِ " الفتح " ويأتي هناك جوابه.

قوله: " كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ " كَيْفَ " خبرٌ مقدَّمٌ، و " عاقبة " اسمها، ولم يُؤنَّثْ فعلْها؛ لأنَّ تأنيثها غير حقيقي؛ ولأنها بتأويل المآلِ والمُنْتَهَى، فإنَّ العاقبة مَصْدَرٌ على وزن " فاعلة " وهو محفوظ في ألْفَاظ تقدَّمَ ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يَصيرُ إليه.

والعاقبةُ إذا أطْلِقَتْ اختصت بالثواب قال تعالى:وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:128] وبالإضافة قد تستعمل في العُقُوبةِ كقوله تبارك وتعالى:ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَى } [الروم:10]،فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا } [الحشر:17] فَصَحَّ أن تكون اسْتِعَارةً من ضدِّهِ كقوله تعالى:فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران:21].

و " كَيْفَ " مُعَلِّقة للنظر، فهي في مَحَلِّ نصبٍ على إسْقَاط الخافض لأنَّ معناه هنا التَّفَكُّرُ والتدبُّرُ. والله أعلم.