الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

لما شرع في إثبات النُّبُواتِ بدأ بِحِكَايَةِ شُبُهاتِ المنكرين لِنُبُوةِ محمد صلى الله عليه وسلم.

الشُّبْهَةُ الأولَى: قولهم: يا محمد إن هذا القرآن الذي جئْتَنَا به كلامٌ تَستفِيدُهُ من مُدَارَسَةِ العلماء، وتُنَظِّمُهُ من عند نفسك، ثم تقرؤه علينا، وتزعم أنه وَحْيٌ نُزِّلَ عليك من عند الله تعالى.

و " الكاف " في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف، فقدَّرَهُ الزجاج: ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم، وقدَّره غيره: نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ تَصْرِيفاً مثل التصريف في هذه السورة.

والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه - تبارك وتعالى - يأتي بها مُتَوَاتِرَة حالاً بعد حالٍ.

قوله: " ولِيَقُولُوا " الجمهور على كسر اللام كي، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار " أن " فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف [غير مرَّةٍ]، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ، كقوله تبارك وتعالى:فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص:8] وكقوله: [الوافر]
2279- لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ   ......................
أي: لما صار أمرهم إلى ذلك عَبِّرَ بهذه العبارةِ، والعِلَّةُ غير مُرَادَةٍ في هذه الأمثلة، والمُحَقِّقُونَ يأبَوْنَ جَعْلَهَا للعاقبة والصَّيْرُورةِ، ويُؤوِّلُونَ ما وَرَدَ من ذلك على المَجَازِ.

وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين؛ أعني كونها " لام " العاقبة، أو العلّة حقيقة، فإنه قال: " واللام لام العاقبة، أي: إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا ".

وقيل: إنه قَصَدَ بالتصريف أن يقولوا: درست عقوبة لهم، يعني: فهذه عِلَّةٌ صَرِيحَة، وقد أوضح بعضهم هذا، فقال: المعنى: يُصَرِّفُ هذه الدلائل حالاً بعد حالٍ ليقول بعضهم: دارست فيزدادوا كُفْراً، وتَنْبِيهٌ لبعضهم فَيَزْدادُوا إيماناً، ونحو:يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [البقرة:26]

وأبو علي جعلها في بَعْضِ القراءات لام الصَّيْرُورَةِ، وفي بعضها لام العلّة؛ فقال: واللام في " ليقولوا " في قراءة ابن عامر، ومَنْ وافقه بمعنى: لئلاً يقولوا؛ أي: صُرِّفَت الآيات، وأحْكِمَتْ لئلا يقولوا: هذه أسَاطيرُ الأوَّلينَ قديمة قد بَلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ على الأسْماع، واللام على سائر القراءاتِ لام الصَّيْرُورةِ.

قال شهاب الدين: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أكَلَتْ وسَرَقَتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذا الكلمة مُتَواتِرِهَا وشَاذِّهَا.

قال أبو حيَّان: " وما أجَازَهُ من إضمار " لا " بعد اللام المضمر بعدها " أنْ " هو مذْهَبٌ لبعض الكوفيين، كما أضمروها بعد " أنْ " المُظْهَرَة فيأَن تَضِلُّواْ } [النساء:176] ولا يجيز البَصْرِيُّونَ إضْمَارَ " لا " إلا في القَسَمِ على ما تَبَيَّنَ فيه ".

ثم هذه " اللام " لا بد لها من مُتعلِّقٍ، فقدَّرَهُ الزمخشري وغيره مُتَأخِّراً، قال الزمخشري: " وليقولوا " جوابه مَحْذُوف، تقديره: وليقولوا دَرَسَتْ تُصَرِّفُهَا.

فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين اللاَّمَيْنِ في " ليقولوا " و " لنُبَيِّنَهُ "؟

قال شهاب الدين: الفَرْقُ بينهما أن الأولَى مَجَازٌ، والثانية حَقيقَةٌ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا: دارست، ولكن لأنه لمَّا حَصَلَ هذا القولُ بتصريف الآيات كما حَصَلَ للتَّبْيينِ شبِّه به فسِيقَ مَسَاقَةُ.

السابقالتالي
2 3 4