الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

قال سعيد بن المُسَيَّبِ: لا تحيط به الأبصارُ.

وقال عطاء: كَلَّتْ أبْصَارُ المخلوقين عن الإحَاطَةِ به.

وقال ابن عبَّاسٍ: لا تدركه الأبْصَارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة.

قوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } أي: لا يخفى عليه شيءٌ ولا يفوته { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }.

قال ابن عباس: اللَّطيفُ بأوليائه، الخَبِيرُ بهم.

وقال الأزهري: اللَّطِيفُ الرفيق بعباده.

وقيل: اللطيف الذي يُنْسِي العِبادَ ذنوبهم لئلاَّ يَِخْجَلُوا، واللَّطَافَةُ ضِد‍ُّ الكَثَافَةِ، والمراد منه الرقة، وذلك في حَقِّ الله تعالى ممتنع، فوجب المصير إلى التأويل، وهو من وجوه:

أحدها: لطف صنعه في تركيب أبْدانِ الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والمنَافِذِ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا اللَّه تبارك وتعالى.

وثانيها: لَطِيفٌ بعباده حيث يثني عليهم عند الطَّاعةِ، ويأمرهم [بالتَّوبْةِ عند] المعصية، ولا يقطعُ عنهم موادَّ رحمته، سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً.

وثالثها: لَطِيفٌ بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوقَ اسْتِحْقَاقهمْ.

وأما الخبير فهو من الخبرِ، وهو العلم، والمعنى: أنه لَطِيفٌ بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارْتِكَابِ المعاصي والقبائح.

وقال الزمخشري: اللَّطِيفُ معناه: أنه يلطف عن أن تُدْرِكهُ الأبصار الخبير بكل لطيف، فهو يُدْرِكُ الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه.

فصل فيما تدل عليه الآية

احتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أنه - تبارك وتعالى - لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ، وذلك مما يساعد الخصم عليه، وعليه بنوا اسْتِدْلاَلَهُمْ على نَفْي الرؤية، فنقول: لو لم يكن تعالى جَائِزَ الرّ‍ُؤيَةَ لما حَصَلَ التَّمَدُّحُ بقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ }؛ ألا ترى أن المعدوم لا تَصِحُّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا يَصِحُّ رؤيتها، فثبت أن قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المَدْحَ لو كان صَحِيحَ الرُّؤيَةِ، وهذا يَدُلُّ على أن قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } يفيد كونه - تعالى - جَائِزَ الرُّؤيَةِ، وتحقيقه أن الشيء إذا كان في نَفْسِهِ بحيث يمتنع رؤيته، فحينئذ لا يَلْزمُ من عدم رؤيته مَدْحٌ وتَعْظيمٌ لذلك الشيء، أما إذا كان في نفسه جَائِزَ الرؤية، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رُؤيَتِهِ، وعن إدراكه كانت هذه القُدْرَةُ دَالَّةً على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالَّةٌ على أنه - تعالى - يجوز رُؤيَتُهُ بحسب ذاته، وإذا ثبت هذا وجب القَطْعُ بأن المؤمنين يرونه [يوم القيامة، والدليل عليه أن القائل قائلان قائل قال بجواز الرؤية، مع أن المؤمنين يرونه، وقال قال: لا يرونه، ولا تجوز] رؤيته.

فأما القول بأنه - تعالى - تجوز رؤيته، مع أنه لا يَرَاه أحَدٌ من المؤمنين، فهذا قول لم يقل به أحَدٌ من الأمَّةِ، فكان بَاطِلا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6