الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ }

لما ذكر البراهين الخمسة من دلائل العالم الأعْلَى والأسفل على ثبوت الإلهية، وكمال القدرة والحكمة، ذكر بعد ذلك أنَّ من النَّاسِ من أثبت لله شركاء، وهذه المَسْألةُ تقدَّمَ، إلاَّ أن المَذْكُورَ هنا غير ما تقَّم ذِكرُهُ؛ لأن مثبتي الشَّريك طوائف منها عَبَدَةُ الأصنام فهم يقولون: الأصنام شُرَكَاءُ لله في العبودية والتكوين.

ومنها من يقول: مدبر هذا العالم هو الكَوَاكِبُ، وهؤلاء فَرِيقَان منهم من يقول: إنها وَاجِبَةُ الوجود لذواتها، ومنهم من يقول: إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة، خالقها هو الله تبارك وتعالى، إلا أنه تبارك وتعالى فَوَّضَ تدبير هذا العالم الأسفل إليها، وهؤلاء هم الذين نَاظَرَهُمُ الخليل عليه السلام بقوله:لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام:76].

ومنها الذين قالوا: للعالم إلهان: أحدهما: يفعل الخير خالق النور والناس والدَّوَابَ والأنعام والثاني: يفعل الشَّر، [وهو إبليس] خالق الظلمة، والسِّبَاع والحيَّات والعقارب، وهم مذكورون هاهنا.

قال ابن عباس رضي الله عنها والكلبي: نزلت هذه الآية في الزَّنَادقة أثبتوا الشرك لإبليس [في الخلق].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: والَّذِي يقوي هذا قوله تعالى:وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [الصافات:158] فإنما وصف بكونه من الجِنّ؛ لأن لفظ الجِنّ مشتق من الاستتار، والملائكة الروحانيون لا يرون بالعيون، فصارت كأنها مستترة عن العيون، فلهذا أطلق لفظ الجن عليها.

قال ابن الخطيب - رحمه الله -: هو مذهب المَجُوسِ، وإنما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا قول الزَّنَادقة؛ لأن المجوس يُلَقبونَ بالزنادقة؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نُزِّلَ عليه من عند الله تبارك وتعالى مسمى بالزند، والمنسوب إليه يسمى زندي، ثم أعْرِبَ فقيل: زنديق، ثم جمع فقيل: الزنادقة.

واعلم أن المجُوسَ قالوا في كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشر فهو من أهرمن وهو المسمى بـ " إبليس " في شرعنا، ثم اختلفوا فقال أكثرهم: هو محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة.

وقال بعضهم: إنه قَدِيمٌ أزَلِيٌّ، واتفقوا أنه شريك لله - تعالى - في تَدْبيرِ هذا العالم، فَخَيْرُهُ من الله تبارك وتعالى، وشَرُّهُ من إبليس لَعَنَهُ الله، فهذا شرح قول ابن عباس رضي الله عنهما.

فإن قيل: القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً، وهو إبليس، فكيف حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء.

فالجواب: أنهم يقولون: عَسْكَرُ الله هم الملائِكَةُ، وعسكر إبليس الشياطين، والملائكة فيهم كثرة عظيمة، وهم أرْوَاحٌ طاهرة مُقَدَّسَةٌ يلهمون الأرواح البشرية للخيرات والطاعات، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة تلقي الوَسَاوِس الخبيثة إلى الأرواح البَشَرِيَّةِ، والله تبارك وتعالى مع عَسْكَرِهِ من الملائكة يحاربون إبْلِيسَ مع عَسْكَرِهِ من الشياطين، فلهذا حكى الله تبارك وتعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء الجنَّ.

السابقالتالي
2 3 4 5