الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

قوله: { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم } ، أي: أتبعنا على آثارهم، أي: على آثار الذُّرية.

وقيل: على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس، وغيرهم، { وقفّينا بعيسى ابن مريم } ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه.

{ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ }: وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران.

وقراءة الحسن: بفتح الهمزة.

قال الزمخشري: أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح " الفاء "؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب.

وقال ابن جنّي: قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة، لا نظير له؛ لأنه " أفعيل " وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام.

وقال ابن الخطيب: وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع؛ وله وجهان:

أحدهما: أنه شاذ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل.

والثاني: أنه ظن الإنجيل أعجميًّا، فحرف مثاله؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً.

قوله: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } على دينه يعني: الحواريين وأتباعهم { رَأْفَةً وَرَحْمَةً }.

قرأ الحسن: " رَآفة " بزنة " فَعَالة ".

قال مقاتل: المراد من الرَّأفة والرحمة: المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].

وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.

والرَّأفة: [اللِّين.

والرحمة:] الشَّفقةُ.

وقيل: الرأفة تخفيف الكُل، والرحمة تحمل الثقل.

وقيل: الرَّأفة: أشد من الرحمة وتم الكلام.

فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى

دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.

قال القاضي: المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب.

والجواب: أن هذا ترك للظاهر من غير دليل، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.

قوله: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا }. في انتصابها وجهان:

أحدهما: أنها معطوفة على " رأفة ورحمة ".

و " جعل " إما بمعنى " خَلَق " ، وإما بمعنى " صيّر " ، و " ابتدعوها " على هذا صفة لـ " رَهْبَانية " ، وإنما خصّت بذكر الابتداع؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال البدن، وللإنسان فيها تكسُّب، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7