الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ: أنَّ الصَّحابَةَ - رضي الله عنهم - أجمعين، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ، قالوا: يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر؛ فنزلت هذه الآيةُ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ:وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143] أي: أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي، فلا أضَيِّعُ ذلك.

قوله تعالى: { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ }: ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة، وهي: " لَيْسَ " وما في حَيِّزها، والتقدير: لا يَأثَمُونَ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً، وأن يكونَ فيه معنى الشرط، وجوابه محذوفٌ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ.

فصل

الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب، ولذلك يُقَالُ: الطعم خلافُ الشُّرْب، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات، كقوله تعالى:وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ } [البقرة: 249]، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله: " فِيمَا طَعِمُوا " أي: شَرِبُوا الخَمْرَ، ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ.

وقد تقُولُ العربُ: تطعّم حتى تطعم أي: ذُق حتى تَشْتَهِيَ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً.

فإن قيل: إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُول التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ: بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان.

وللنَّاس في هذا قولان:

أحدهما: أنَّ هذا من باب التوكيد، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك؛ كقوله تعالى:كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [التكاثر: 3، 4]، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو.

والثاني: أنه للتأسيس، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ.

واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه:

أحدها: قال الأكْثَرُونَ: الأوَّل: عَمَلُ الاتِّقَاء.

والثاني: دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه.

والثالث: اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه.

وثانيها: أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة.

والثاني: اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية.

والثالث: اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [وهذا قول الأصَمِّ].

وثالثها: اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر، ثُمَّ الصَّغَائر.

ورابعها: قال القفَّال - رحمه الله تعالى -: التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون: النَّسخ يدُلُّ على البداء، فأوْجَبَ على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ.

والتقوى الثانية: الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ. والتقوى الثالثة: عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ.

السابقالتالي
2