وهذا خطابٌ مع النَّبِي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمرادُ بالكتابِ القرآن العظيم. والباءُ [في " بالحَقِّ " ] يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ " الكتابِ " أيْ: مُلْتَبِساً بالحقِّ والصِّدْقِ، وهي حالٌ مؤكدة، ويجوزُ أن تكون حالاً من الفاعلِ أيْ: مُصَاحبينَ للحقِّ، أو حالاً من " الكافِ " في " إليْكَ " أيْ: وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ. و " مِنَ الكتابِ " تقدم نظيرُه، و " ألْ " في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ، وفي الثاني: يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة [كما تقدم]. وجوَّز أبُو حيان: أنْ تكُون لِلْعَهد؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [صفة] أيْ: مِنَ الكتابِ الإلهِي، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ. قوله تعالى: " وَمُهَيْمِناً " الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ، اسمُ فاعلٍ، وهو حالٌ من " الكتاب " الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو " مُصدِّقاً " ، ويجوزُ في " مُصَدِّقاً " و " مُهَيْمِناً " أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ " إلَيْكَ " ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رحمه الله. " وعليْهِ " متعلقٌ بـ " مُهَيْمِن ". و " المهيمنُ ": الرَّقيبُ قال حسَّان: [الكامل]
1971- إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا
والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ
والحافِظُ أيْضاً قال: [الطويل]
1972- مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ
لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - " شاهِداً " وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي، وقال عِكْرِمَةُ: دالاً، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبُو عُبيدَةَ: مُؤتَمناً عليه. وقاله الكسائيُّ والحسنُ. واختلفوا: هل هو أصل بِنَفْسِهِ، أيْ: أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ، يقالُ: " هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن " كـ " بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر ". وقال أبُو عُبَيْدة: لم تَجِىءْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ: " مُبَيْطِر، ومُسَيْطِر، ومُهَيْمن، ومُحَيْمِر ". وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ " أدَبِ الكاتبِ " لفظاً خامساً، وهو مُبَيْقِر، اسم فاعل من: بَيْقَر يُبَيْقِر أيْ: خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان. وقيل: إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ، والأصْلُ " مُأَأْمِن " بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً كـ " هراق وهراح، وهَبرتُ الثوب " في: " أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ " و " أيهاتَ وهَيْهَات " ونحوها، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها كـ " مُبَيْطِر " وإخوانه، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ " مُأَأْمِن " اسمُ فاعلٍ من " آمَنَ " قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت، ثم أبدلت هاءً، هذا ما لا نظيرَ له.