الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله عز وجلا: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } الآية.

وهذا هو المُسْتَثْنَى مِنَ الإبَاحَةِ في قوله:إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 1] وهو أحَدَ عَشَرَ نَوْعاً، وقد تقدم إعرابُ: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ } وأصْلُهَا.

واعلمْ أنَّ تحريمَ الميتةِ موافقٌ للمعقولِ؛ لأنَّ الدمَ جوهرٌ لَطِيفٌ جِداً فإذا ماتَ الحيوانُ حَتْفَ أنْفِهِ احْتَبَسَ الدمُ في عُرُوقِهِ وتعفَّن وفَسَدَ؛ وحصل من أكْلِهِ مَضَرَّةٌ.

وأمَّا الدمُ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كانوا يَمْلَؤُونَ المِعَى مِنَ الدَّمِ وَيَشْوونَهُ ويُطْعمُونَه للضيفِ، فحرّم الله ذلك عليهم.

وأما الخنزيرُ فقال العلماءُ: الغذاءُ يصيرُ جُزْءاً من جوهرِ المتغذِّي ولا بُدَّ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُتغذِّي أخلاقٌ وصفاتٌ مِنْ جِنْسِ ما كان حَاصِلاً في الغذاء، والخنزيرُ مَطْبوعٌ على حِرْصٍ عَظيمٍ ورغبة شديدةٍ في المُشْتهياتِ، فحرَّمَ اللَّهُ أكلهُ على الإنسانِ لِئلاَّ يَتَكيّفَ بِتلْكَ الكيفيّةِ؛ وذلك لأنَّ الفرنج لما وَاظَبُوا على أكْلِ لَحْمِ الخنزيرِ أوْرَثَهُمُ الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المُشْتهياتِ، وأورثهم عدم الغيرةِ، [فإنّ الخِنْزِيرَ يَرَى الذّكرَ من الخنزيرِ يَنْزُو على الأنْثَى التي لَهُ لا يتعرض إليه؛ لعدم الغَيْرةِ، وقد] تقدمَ الكلام على الخنزيرِ واشتقاقِهِ في سورة البقرة.

وأمَّا الشاةُ فإنها حيوانٌ في غَايَةِ السَّلاَمَةِ، وكأنَّها ذَاتُ عَارِيَةٍ عَنْ جَمِيعِ الأخْلاقِ، فلذلك لا يَحْصُلُ للإنسانِ بِسَبَبِ أكْلِها كَيْفِيَّةٌ أجْنَبِيَّةٌ عن أحوالِ الإنسانِ.

وأمَّا ما { أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } ، والإهلالُ رَفْع الصوتِ، ومنه يقالُ: فلانٌ أهَلَّ بالحجِّ إذَا لَبَّى، ومِنْهُ استهلالُ الصَّبِي وهو صراخُهُ إذا وُلِد، وكانوا يقولُونَ عند الذَّبْح باسم اللاَّتِ والعُزَّى، فحرم الله ذلك، وقدِّمَ هنا لَفْظُ الجلالةِ في قوله: { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } وأخِّرتْ في البقرة [آية 173]؛ لأنَّها هناك فاصلةٌ، أو تُشْبِهُ الفاصِلَةَ بخلاف هاهنا، فإنَّ بَعْدَها مَعْطُوفاتٍ.

والمنخنِقَةُ وهي التي تموتُ خَنْقاً، وهو حَبْسُ النَّفَسِ سَواءٌ فعل بها ذلك [آدمِيٌّ أو] اتفق لها ذلك في حَبْلٍ أوْ بين عُودَيْنِ أو نحوه.

وذكر قتادةُ أنَّ أهل الجاهليةِ كانوا يَخْنُقُونَ الشاةَ وغيرَها، فإذا ماتَتْ أكَلُوها، وذكر نحوه ابنُ عباسٍ.

والمَوْقُوذَةُ: وهي التي وُقذَتْ أي: ضُربَتْ حتى ماتت من وَقَذَه أيْ ضَرَبَهُ حتى اسْتَرْخَى، ومنه وَقَذَهُ النُّعَاسُ أيْ: غلبه ووقذه الحُلُم: أيْ: سكنه وكأنَّ المادة دالَّةٌ على سُكُونٍ واسْتِرخاءٍ، ويدل في الموقوذةِ ما رُمِيَ بالبندقِ فماتَ، وهي - أيضاً - في مَعْنى الميتةِ وفي معنى المنخنقةِ، فإنها ماتَتْ ولم يَسِلْ دَمُهَا.

والمتردِّيَةُ: من تَرَدَّى، أي: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فَهَلَكَ، ويُقالُ: ما يُدْرَى أين " ردَى "؟ أيْ: ذَهَبَ، ورَدَى وتَرَدَّى بمعنى هَلكَ.

قال تعالى:وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } [الليل: 11]، والمتردِّي أنْوَاعٌ: فالمترديةُ هي التي تسقطُ مِنْ جَبَلٍ أو مَوْضِعٍ مُشْرِفٍ أو في بِئْر فتموت، فهذه مَيْتَةٌ، لأنَّها ماتَتْ وما سَال منها الدمُ، ويدخل فيه إذا أصابه سَهْمٌ وهو في الجبل فَسَقَطَ على الأرض؛ فإنه يُحَرَّمُ أكْلُه؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ ماتَ بالتَّرَدِّي أوْ بالسَّهْم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10