الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } الآية.

قد تقدَّم الكلامُ على نَظِيره.

قال القُرْطُبِي: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، و " مَا " زائدة للتَّوْكيد.

قال قتادةُ وغيرُه: وذلك أنَّها تؤكِّد الكلام بمعنى تمكنه في النَّفْس من جهة حسن النَّظْم، ومن جهة تَكْثِيرِه [للتَّوْكِيد]، كقوله [الوافر]
1945-.................   لِشَيْءٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وقيل: نَقْضُ الميثاق تكْذيبُ الرُّسل، وقيل: الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: كِتْمَانهم صفة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المَجْمُوع.

وقال عطاء: " لَعَنَّاهم " أبعدناهم من رحمتنا، وقال الحسن ومُقاتل: مسَخْنَاهم قِرَدة وخنازير. وقال ابن عبَّاس: ضربنا الجِزْية عَلَيْهِم.

قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }.

قرأ الجمهور " قَاسِيَة " اسم فاعل من قَسَا يَقْسُو.

وقرأ الأخوان وهي قراءة عَبْد الله " قَسِيَّة " بفتح القاف وكَسْرِ السِّين وتشديد اليَاء، واختلف الناس في هذه القراءة.

فقال الفَارِسي: لَيْسَت من ألْفَاظِ العرب [في الأصل]، وإنَّما هي كَلِمَةٌ أعْجَمِيَّةٌ معرَّبة، يعني أنها مأخوذَةٌ من قولهم: درهم قَسِيّ، أي: مَغْشُوش، شبَّه قلوبهم في كونها غير صَافِية من الكَدَرِ بالدَّراهم المَغْشوشة غير الخَالِصَة، وأنْشَدُوا قول أبي زُبَيْد: [البسيط]
1946- لها صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا   صَاحَ القَسِيَّاتُ في أيْدِي الصَّيَارِيفِ
وقول الآخر: [الطويل]
1947- وَمَا زَوَّدُونِي غَيْرَ سَحْقِ عمَامَةٍ   وَخَمْسِ مِىءٍ مِنْهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ
وقال الزَّمَخْشَرِي، وقرأ عبد الله " قسيَّة " ، أي: رديئة مغشوشة من قولهم: " درهم قَسيّ " ، وهو من القَسْوة؛ لأن الذَّهَبَ والفضَّةَ الخالِصَيْن فيهما لين، والمغشوش فيه صلابةٌ ويُبْسٌ والقَاسِي والقاسِح بالحاء المهملة أخوان في الدَّلالة على اليُبْس.

وهذا القول سبقه إليه " المُبَرِّد " ، فإنه قال: " يسمى الدِّرْهم المَغْشُوش قَسِيًّا لصلابته وشدَّتهِ للغِشِّ الذي فيه " ، وهو يرجعُ للمعنى الأوَّل، والقاسِي والقَاسِح بمعنى واحد.

وعلى هذين القَولَيْن تكون اللَّفظة عَرَبيَّةً.

وقيل: بل هذه القِرَاءَةُ توافق قِراءَة الجَمَاعَة في المعنى والاشْتِقَاق؛ لأنَّه " فَعِيل " للمُبَالغة كـ " شاهد " ، و " شهيد " ، فكذلك قاسٍ وقَسِيّ، وإنما أنِّث على معنى الجماعةِ في المعنى والاشْتِقَاق.

وقرأ الهَيْصَم بن شداخ: " قُسِيَّة " بضم القَافِ وتشديد اليَاء.

وقرئ " قِسِيَّة " بكسر القاف إتْبَاعاً، وأصْلُ القراءَتَيْن: " قاسِوَة " ، و " قَسِيوة " لأن الاشْتِقَاق من القَسْوة.

فصل

والمعنى أنَّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان، بل إيمانُهُم مشوبٌ بالكُفْرِ والنِّفَاق، وقيل: نائيةٌ عن قُبُول الحقِّ، مُنْصَرِفة عن الانقيادِ للدَّلائل.

وقالت المُعْتَزِلَة: أخْبِرْنا عنها بأنَّها صارت قَاسِيَة، كما يُقَال: فلانٌ جعل فُلاناً قاسِياً وعدْلاً. ثم إنَّه تعالى ذكر بَعْضَ نتائج تلك القَسْوَة، فقال: { يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ } وهذا التَّحْرِيفُ هو تَبْدِيلُهم نعت النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -، وقيل: التَّأويل البَاطل.

السابقالتالي
2 3