الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ }

قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ: " مُنَزِّلُهَا ": بالتشديد، فقيل: إنَّ أنْزَلَ ونَزَّلَ بمعنًى، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقيل: التشديدُ للتكثير، فإنها نزلت مرَّاتٍ متعددة.

قوله: " بَعْدُ ": متعلِّق بـ " يَكْفُرْ " ، وبُنِي؛ لقَطْعِه عن الإضافة؛ إذ الأصل: بَعْدَ الإنْزَالِ، و " مِنْكُمْ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل " يَكْفُرْ " ، وقوله: " عَذَاباً " فيه وجهان:

أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حذفِ الزوائد؛ نحو: " عَطَاء ونَبَات " لـ " أعْطَى " و " أنْبَتَ " ، وانتصابُه على المصدريَّة بالتقديرين المذكورين.

والثاني - أجازه أبو البقاء -: أن يكون مفعولاً به على السَّعَة، يعني: جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به على السَّعة؛ مبالغةً، وحينئذٍ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعول به عند النحاة ثلاثةُ أنواعٍ: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتَّسَعُ فيهما:

أمَّا المصدرُ، فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ، فنحو: " يَوْمَ الجُمُعَةِ صُمْتُهُ " ، ومنه قوله في ذلك: [الطويل]
2099- وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً   قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُهْ
قال الزمخشريُّ: " ولو أُريدَ بالعذاب ما يُعَذَّبُ به، لكان لا بُدَّ من البَاءِ " قال شهاب الدين: إنما قال ذلك؛ لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّبُ به كثيرٌ، فخاف أن يُتوهَّمَ ذلك، وليس لقائلٍ أن يقول: كان الأصلُ: بِعَذَابٍ، ثم حذفَ الحرف؛ فانتصب المجرورُ به؛ لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع " أنْ " و " أنَّ " بشرطِ أمْنِ اللَّبْسِ.

قوله: " لاَ أعَذِّبُهُ " الهاءُ فيها ثلاثة أوجه:

أظهرها: أنها عائدة على " عَذَاب " الذي تقدَّم أنه بمعنى التعْذِيب، والتقدير: فإنِّي أعَذِّبُهُ تَعْذِيباً لا أعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْذيبِ أحَداً، والجملة في محلِّ نَصْبٍ صفةً لـ " عَذَاباً " ، وهذا وجه سالمٌ من تَكَلُّفٍ ستَرَاهُ في غيره، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا لوجه - أعني عودَها على " عَذَاباً " المتقدِّم - قال: " وفيه على هذا وجهان:

أحدهما: على حَذْفِ حرف الجر، أي: لا أعَذِّبُ به أحداً، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة ". قال شهاب الدين: أمَّا قوله " حُذِفَ الحَرْف " ، فقد عرفْتَ أنه لا يجوز إلا فيما استثني.

الثاني - من أوجه الهاء -: أنها تعودُ على " من " المتقدِّمة في قوله: " فَمَنْ يَكْفُرْ " ، والمعنى: لا أعَذِّبُ مِثْلَ عَذَاب الكَافِرِ أحَداً، ولا بُدَّ من تقدير هذين المضافَيْنِ؛ لِيَصِحَّ المعنى، قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: " وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: لا أعذِّبُ الكَافِرَ، أي: مثل الكافرِ، أي: مثل عذابِ الكَافر ".

السابقالتالي
2 3 4