الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ }

أي: أكْلُ تبرُّكٍ، لا أكْلُ حَاجَةٍ، وقال المارودِي: لأنَّهم لما احْتَاجُوا لم يُنْهَوا عن السُّؤال، وقيل: أرَادُوا الأكْلَ للحَاجَةِ.

وقوله: " وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا " أي: إنَّا وإنْ عَلِمْنَا قُدْرةَ الله تعالى بالدَّليل، ولكنَّا إن شاهدنا نُزُولَ هذه المَائِدة ازداد اليقين، وقويت الطُّمَأنِينَةُ.

وقيل: المَعْنَى إنَّا وإن عَلِمْنَا صِدْقَكَ بِسَائِر المُعْجِزَات، ولكن إذا شَاهَدْنَا هذه المُعْجِزَة ازدَادَ اليَقِينُ والعِرْفَان، وهذا مَعْنَى قوله: { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا }: أنَّك رَسُولُ اللَّهِ.

قيل: إنَّ عيسَى ابن مَرْيم أمَرَهُمْ أن يَصُومُوا ثلاثين يَوْماً، فإذا أفْطَرُوا لا يَسْألُون الله شيئاً إلاَّ أعْطَاهُمْ، ففعلوا وسألُوه المَائِدَةَ، وقالوا: { نَعْلَمَ أن قَدْ صَدَقْتَنَا } في قولك: " إنَّا إذا صُمْنَا ثلاثين يَوْماً لا نَسْألُ الله شَيْئاً إلاَّ أعْطَانَا ".

وقيل: إنَّ جميعَ المُعْجِزَات التي أوْرَدْتَهَا كانت مُعْجَزَات أرْضِيَّة، وهذه سَمَاوِيَّة، وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ، { وَنَكُون عليها من الشَّاهدين } نَشْهَدُ عليها عِنْد الذين لم يَحْضُرُوها من بَنِي إسرائيل، ويَكُونُوا شَاهِدِين لله تعالى بِكَمَال القُدْرَة.

وقرأ الجمهور: " وَنَعْلَمَ ": و " نَكُون " بنون المتكلم مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن جُبَيْر - رضي الله عنه - فيما نقله عنه ابن عطيَّة - " وتُعْلَم " بضمِ التاء على أنه مبنيٌّ للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب، أي: وتُعْلَمَ قُلُوبُنَا، ونُقِلَ عنه " وَنُعْلَمَ " بالنون مبنيًّا للمفعول، وقرىء: " وَيُعْلَمَ " بالياء مبنيًّا للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل: { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي: ويُعْلَمَ صِدْقُكَ لنا، ولا يجوزُ أن يكُون الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوبِ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى المؤنَّثِ المجازيِّ، ولا يجوزُ تذكيرُ فِعْلِ ضميره، وقرأ الأعمشُ: [ " وتَعْلَمَ " ] بتاءٍ والفعلُ مبنيٌّ للفاعل، وهو ضمير القُلُوبِ، ولا يجوزُ أن تكون التاءُ للخطاب؛ لفسادِ المعنى، وروي: " وتِعْلَمَ " بكسر حرف المضارعة، والمعنى على ما تقدَّم، وقُرِىء: " وتكونَ " بالتاء والضمير للقلوب.

و " أنْ " في { أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } مخفَّفةٌ، واسمُها محذوفٌ، و " قَدْ " فاصلةٌ؛ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرِّفةٌ غيرُ دُعَاءٍ، وقد عُرِفَ ذلك مما تقدَّم في قوله:أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [المائدة: 71]، و " أنْ " وما بعدها سادَّةٌ مسدَّ المفعولَيْن، أو مَسَدَّ الأول فقط، والثاني محذوفٌ، و " عَلَيْهَا " متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه " الشَّاهدين " ، ولا يتعلَّقُ بما بعده؛ لأن " ألْ " لا يَعْمَلُ ما بعدها فيما قبلها عند الجمهور، ومنْ يُجِيزُ ذلك يقول: " هو متعلِّقٌ بالشاهدينَ، قُدِّم للفواصِل ". وأجاز الزمخشريُّ أن تكون " عَلَيْهَا " حالاً؛ فإنه قال: " أو نَكُونَ من الشاهدينَ لله بالوحدانيَّة، ولك بالنبوَّةِ عاكِفِينَ عليها، على أن " عَلَيْهَا " في موضع الحال " فقوله " عَاكِفينَ " تفسيرُ معنًى؛ لأنه لا يُضْمَرُ في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة. وقرأ اليمانيُّ: " وإنَّهُ " بـ " إنَّ " المشدَّدة، والضميرُ: إما للعيد، وإما للإنزال.

وبهذا لا يَرِدُ عليه ما قاله أبو حيان - رحمه الله تعالى - فإنه غابَ عليه ذلك، وجعله متناقِضاً؛ من حيث إنه لَمَّا عَلَّقَهُ بـ " عَاكِفِينَ " كان غيْرَ حال؛ لأنه إذا كان حالاً، تعلَّقَ بكون مُطْلَقٍ ولا أدْرِي ما معنى التناقُض.