الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

لمَّا بين أنَّ هؤلاء الجُهَّالِ لم ينتَفِعُوا بِشَيءٍ ممَّا تقدَّم من التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، بل بَقُوا مُصِرِّين على جَهْلهم وضَلالِهم، قال: فَلا تُبَالوا أيّها المُؤمِنُون بجهالاتِهِم، بل كُونُوا مُنْقَادِين لتَكَالِيفِ اللَّهِ تعالى، فلا يضُرُّكم ضلالَتُهُم.

قوله: " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ ": الجمهورُ على نَصْب " أنْفُسَكُمْ " وهو منصوب على الإغْرَاء بـ " عَلَيْكُمْ "؛ لأنَّ " عَلَيْكُمْ " هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ التقديرُ: الزمُوا أنْفُسَكُمْ، أي: هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها، فـ " عَلَيْكُمْ " هنا يرفعُ فاعلاً، تقديره: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوعٌ؛ نحو: " عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ "؛ كأنك قُلْتَ: الزَمُوا أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو: إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى عن العرب " عَلَى عَبْدِ الله " بجرِّ " عَبْدِ الله " وهو نصٌّ في المسألة، وذهب الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما، أعني " عَلَى " وما بعدها كهذه الآية، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه.

وقال أبو البقاء - بعد أن جعل " كُمْ " في موضع جرّ بـ " عَلَى " بخلافِ " رُوَيْدَكُمْ " -: " فإن الكاف هناك للخطَابِ، ولا موضع لها، فإن " رُوَيْد " قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ، وكذا قوله تعالى:مَكَانَكُمْ } [يونس: 28] " كُمْ " في محل جَرٍّ " ، وفي هذه المسألة كلامٌ طويلٌ، صحيحُه أنَّ " رُوَيْد " تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه.

قال ابنُ الخطيب: قال النَّحْوِيُّونَ: " عَلَيْك، وعِنْدَك، ودُونَك " من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول، ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ، وينصِبُون بِهَا، فإذا قال: " عَلَيْك [زيداً] " كأنه قال: خُذْ زيْداً [فقد عَلاَك، أي أشْرَفَ عليْك]، وعِنْدَك زَيْداً، أي: حَضَرَك فَخُذْهُ، و " دُونَك " أي: قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا.

وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ: " أنْفُسُكُمْ " رفعاً فيما حكاه عنه صاحبُ " الكشَّاف " ، وهي مُشْكَلِةٌ، وتخريجُها على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، و " عَلَيْكُمْ " خبره مقدَّم عليه، والمعنى على الإغْراء أيضاً؛ فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة، ومنه قراءةُ بعضهمنَاقَةُ ٱللَّهِ وَسُقْيَاهَا } [الشمس: 13]، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء.

والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضميرِ المُستترِ في " عَلَيْكُمْ "؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ.

السابقالتالي
2 3 4