الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } * { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

لمَّا حرَّم الله تعالى الاصْطِيَاد على المُحْرِمين، وبيَّن أنَّ الإحْرَام سَبَب لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، بيَّن هاهُنَا أنَّ ذلِكَ التَّحْرِيم الذي حَرَّمَهُ الإحرام؛ إنَّما سببُه حُرْمَة هذا البيت الحرامِ، فكما أنَّه سَبَبٌ لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، فكذلك هُوَ سَبَبٌ لأمْن النَّاسِ عن الآفات والمخافات.

قوله: " جَعَلَ اللَّهُ ": فيها وجهان:

أحدهما: أنها بمعنى " صَيَّرَ " فتتعدَّى لاثنين، أولهما " الكَعْبَة " والثاني " قِيَاماً ".

والثاني: أن تكون بمعنى " خَلَقَ " ، فتتعدَّى لواحد، وهو " الكَعْبَة " ، و " قِياماً " نصبٌ على الحال، وقال بعضُهُمْ: إنَّ " جَعَلَ " هنا بمعنى " بَيَّنَ " و " حَكَمَ " ، وهذا ينبغي أن يُحْمَلَ على تَفْسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية؛ أنها تكونُ بمعنى " بَيَّنَ " ولا " حَكَمَ " ، ولكن يلزمُ من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا " البَيْتَ " ، فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ، وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك: أن بعض الجاهليَّة - وهم خَثْعَم - سَمَّوْا بيتاً الكعبة اليمانية، فجيء بهذا البدلِ، أو البيانِ، تبييناً له من غيره، وقال الزمخشريُّ: " البَيْتَ الحَرَامَ " عطف بيانٍ على جهة المدحِ، لا على جهة التوضيحِ؛ كما تجيء الصفةُ كذلك، واعترض عليه أبو حيان بأن شرط البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعِرُ بمَدْحٍ، وإنما يُشْعِرُ به المشتقُّ، ثم قال: " إلاَّ أنْ يُريد أنه لَمَّا وُصِفَ البيْتُ بالحرامِ اقْتَضَى المجموعُ ذلك فيمكنُ ".

والكَعْبَةُ لغةً: كلُّ بيْتٍ مربَّعٍ، وسُمِّيَت الكعبةُ كَعْبَةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكعبِ الذي هو أحَدُ أعضاءِ الآدميِّ، قال الراغب: " كَعْبُ الرَّجُلِ " العَظْم الذي عند مُلْتَقى الساق والقَدَم، والكَعْبةُ كُلُّ بَيْتٍ على هَيْئَتِهَا في التَّرْبِيع، والعربُ تُسَمِّي كلَّ بَيْت مُرَبَّع كَعْبةً؛ لانفرادها من البِنَاءِ.

وقيل: سُمِّيَت كَعْبَةً لارتفَاعِهَا من الأرْض، وأصْلُها من الخُرُوج والارتِفَاع، وسُمِّيَ الكعبُ كَعْباً لِنُتُوئِهِ، وخُرُوجه من جَانِبي القَدم، ومنه قِيلَ لِلْجَارية إذا قاربتِ البُلُوغَ وخَرَجَ ثَدْياهَا تكعَّبَتْ والكعبة لمَّا ارتفع ذِكْرُها سُمِّيَتْ بهذا الاسْم، ويقولون لِمَنْ عَظُمَ أمْرُه " فلانٌ عَلاَ كَعْبُهُ " وذُو الكعبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وتقدَّم الكلام في هذه المادةِ أول السورة [آية 6].

فصل

قَالُوا: بُنِيَتِ الكَعْبةُ الكَريمَةُ خَمْسَ مَرَّاتٍ:

الأولى: بناءُ الملائِكَة قبلَ آدَمَ - عليه السلام -.

والثانية: بِنَاءُ إبراهيم - عليه السلام -.

والثالثة: بناءُ قُرَيْشٍ في الجاهليَّة، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البِنَاء.

والرابعة: بناءُ ابنُ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه -.

والخامسة: بناءُ الحَجَّاج وهو البِنَاءُ الموجُودُ اليَوْمَ، وهكذا كانَتْ في زمَنِ الرَّسُولِ - عليه السلام - قال المارودي في " الأحْكَام السُّلطَانِيَّة ": كانت الكَعْبَةُ بَعْدَ إبراهيم - عليه السلام - مع " جُرْهُم " والعمَالِقَة إلى أن انْقَرَضُوا، وخلفتهم فيها قريشُ بعد استيلائِهِم على الحَرَمِ لِكَثْرتِهِم بعد القِلَّةِ، وعِزهِم بَعْدَ الذِّلَّةِ، فكان أوَّلُ من جَدَّدَ بِنَاءَ الكَعْبَةِ بعد إبْراهيمَ - عليه السلام - قُصَيّ بن كِلاَب، وسَقَّفَها بخَشَبِ الدومِ وجريد النَّخْل، ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنُ خمْسٍ وعشرين سَنَةً، وشَهِدَ بِنَاءَهَا، وكان بابُها بالأرْض، فقال أبُو حُذَيْفَة بنُ المُغِيرة: يا قَوْمُ، ارفعُوا باب الكَعْبَةِ حتَّى لا يَدْخُلَ [أحدٌ] إلاَّ بسُلَّمِ، فإنَّه لا يدخلها حينئذٍ الآنَ إلاَّ ما أَرَدْتُمْ، فإن جاء أحَدٌ ممن تَكْرَهُون، رَمَيْتُم به فَسَقَطَ، وصار نكالاً لمن يَرَاهُ، ففعلت قُرَيْشُ ذلك، وكان سببُ بِنَائِها أنَّ الكَعْبَة استُهْدِمَتْ وكانَتْ فَوْق القَامَةِ، فأرَادُوا تَعْلِيَتَهَا.

السابقالتالي
2 3 4 5