قوله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلفوا في هذا الفتح فروى أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه فتح الحديبية، وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحُجَّة والبُرْهَان والسَّيْفِ والسِّنان. وقيل: الفتح الحكم لقوله تعالى:{ ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [الأعراف:89] وقوله:{ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } [سبأ:26]. فمن قال: هو فتح مكة قال: لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه: أحدها: أنه تعالى لما قال:{ هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [محمد:38] إلى أن قال:{ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [محمد:38] وبين تعالى أنه فَتَحَ لهم مكة، وغَنِموا ديارهم، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم. وثانيها: لما قال:{ واللهُ مَعكُمْ } [محمد:35] وقال:{ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } [محمد:35] بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. وثالثها: لما قال تعالى:{ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } [محمد:35] وكان معناه لا تسألوا الفتح بل اصبروا فإنكم تسألون الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتوا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين. فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت فكيف قال: فتحنا بلفظ الماضي؟. فالجواب من وجهين: أحدهما: فتحنا في حُكْمِنا وتَقْدِيرِنا. والثاني: ما قدره الله تعالى فهنو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمرٌ واقعٌ لا دَافِعَ له. وأما حجة رأي الأَكْثرِين على أنه صلح الحديبية فلِمَا رَوَى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائةً والحديبيةُ بئرٌ فَنَزَحَنَاهَا فلم تنزل قَطْرَةٌ فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ ودعا وَصبَّهُ فيها فتركناها غير بعيد. ثم إنها أَصْدَرَتْنَا ما شئنا نحن وركابنا. قال الشعبي في قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً قال: فتح الحديبية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نَخْل خيبر، وبلغ الهديُ مَحِلّه وظهرت الروم على الفرس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المَجُوسِ. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظمُ من صُلْحِ الحُدْيبِيَةِ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاثِ سنين خلق كثير وكثر سَواَدٌ الإسلام، قال المفسرون: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } أي قضينا لك قَضَاءً بَيِّناً. قوله: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } متعلق " بِفَتَحْنَا " وهي لام العلة. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلتَ: كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة؟. قلتُ: لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز كأنه قال: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن، وإعراض العاجل والآجل.