الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } * { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } * { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً } * { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

قوله تعالى: { سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } قال ابن عباس: ومجاهد: يعني أعراب غِفَار، ومُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، وأشْجَعَ وَأسْلَمَ، وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً اسْتَنفَرَ من حول المدينة من الأعراب، والبَوَادِي ليخرجوا معه حَذَراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهَدْي، ليعلمَ الناسُ أنه لا يريد حَرباً فتثاقل كثيرٌ من الأعراب وتخلفوا واعْتَلُّوا بالشغل لظنهم أنه يهزم، فأنزل الله هذه الآية.

قوله: " شَغَلَتْنَا " حكى الكسائي عن ابن مدح أنه قرأ: شَغَّلَتْنَا بالتشديد { أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } يعني النساء والذَّرَارِي أنْ لم يكن لنا من يخلفنا فيهم { فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا } تَخَلٌّفَنَا عنك. فكذبهم الله في اعتذارهم فقال: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } من الأمر بالاستغفار فإنهم لا يبالون أستغفر لهم النبي أو لا. { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } قرأ الأخوان ضُرًّا ـ بضم الضاد ـ والباقون بفتحها. فقيل: هما لغتان بمعنى كالفَقْر والفُقْر والضَّعف والضُّعْف، وقيل: بالفتح ضِدُّ النفع، وبالضم سُوء الحال فمن فتح قال: لأنه قابله بالنفع، والنفع ضد الضر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدفع عنهم الضر، ويجعل لهم النفع بالسلامة في أموالهم وأنفسهم فأخبرهم أنه إن أراد بهم شيئاً من ذلك لم يقدر واحد على دفعه بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي بما تعلنون من إظهار أمر وإضمار غيره.

قوله: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي ظننتم أن العدو يستأصلهم ولا يرجعون. قرأ عبدالله: إلَى أهلهم دون ياء، بل أضاف الأهل مفرداً.

قوله: { وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ }. قرىء: وزين مبنياً للفاعل أي الشيطان أو فِعْلُكُم زين ذلك الظن في قلوبكم { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } وذلك أنهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه؟ انتظروا ما يكون من أمرهم { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } أي صرتم هَلْكَى لا تصلحون لخير. وقيل: كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا. والبُورُ الهلاكُ. وهو يحتمل أن يكون هنا مصدراً أخبر به عن الجمع كقوله:
4490ـ يَا رَسُول الإِلَهِ إنَّ لِسَـانِي   رَاتِـقٌ مَا فَتقْتُ إذْ أَنَا بُـورُ
ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما. ويجوز أن يكون جمع بَائرٍ كحَائل وحُولٍ في المعتل وبَازِل وبُزْلٍ في الصحيح.

قوله: { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ } يجوز أن يكون (من) شرطية أو موصولة. والظاهر قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم. وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً.

قوله تعالى: { وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين. وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعاً، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم.