الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

لما نهى عن قتل المُؤمِن، أمر المُجَاهِدِين بالتَّثَبُّت في القتل؛ لئلاَّ يسْفِكُوا دماً حَرَاماً بتأويل ضَعِيفٍ، والضَّرْب في الأرْض مَعْنَاه: السَّيْر فيها بالسَّفر للتِّجَارة والجِهَاد، وأصْله من الضَّرْب باليَدِ، وهو كِنَايَة عن الإسْرَاع في السَّيْر، فإن من ضَرَب إنْسَاناً، كانت حَرَكة يَدِهِ عند ذلك الضَّرْب سَرِيعَة.

قال الزَّجَّاج: معنى { ضربتم في سبيل الله }: إذا غَزَوْتُم وسِرْتُم إلى الجِهَاد.

قال القُرْطُبي: تقول العَرَب: ضَرَبْتُ في الأرْضِ، إذا سِرْتَ لتِجَارَةٍ أو غزوٍ أو غيره مُقْتَرِنَة بفي، وتقول: ضَرَبْت الأرْض دون " في " إذا قَصَدْت قَضَاء حَاجَة الإنْسَان؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يَخْرُجُ الرَّجُلان يضربان الغَائِطَ يتحدَّثَان، كَاشِفين عن فَرْجَيْهما، فإن الله يَمْقُتُ على ذَلِكَ " وفي " إذا " مَعْنَى الشَّرْط، فلذلك دَخَلَت الفَاءُ في قوله: " فتبينوا " وقد يُجَازى بها كقوله: [الكامل].
1865أ-....................   وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
والجيِّد ألا يُجَازى بها لقول الشَّاعر: [الكامل]
1865ب- والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا   وإذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
قوله: " فتبينوا ": قرأ الأخوان من التَّثبُّت، والباقُون من البَيَان، هما متقاربان؛ لأن مَنْ تَثبت في الشَّيْء تَبَيَّنه، قاله أبو عبيد، وصحَّحه ابن عطيَّة.

وقال الفَارِسيّ: " التثبُّت هو خِلاَف الإقْدام والمُرَاد التَّأنِّي، والتَّثَبُّت أشد اخْتِصَاصاً بهذا المَوْضِع؛ بدل عليه قوله:وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [النساء: 66] أي: أشدٌّ وَقْعَاً لهم عَمَّا وُعِظوا به بألاَّ يُقْدِمُوا عليه " فاختارَ قراءة الأخوين.

وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة، قالوا: لأن المتثبِّت قد لا يَتَبيَّن، وقال الرَّاغب: لأنه قلَّ ما يكون إلا بَعْدَ تثبُّت، وقد يَكُون التَّثبُّت ولا تبيُّنَ، وقد قُوبِل بالعَجَلة في قوله - عليه الصلاة والسلام -: " التبيُّن من الله والعَجَلُة من الشيطان " وهذا يُقَوِّي قراءة الأخَوَيْن أيضاً، و " تَفَعَّل " في كلتا القراءتين بمعنى اسْتَفْعَل الدال على الطَّلب، أي: اطلبوا التثَبُّت أو البيان.

وقوله: " لمن ألقى " اللام للتَّبْلِيغ هنا، و " من " مَوْصُولة أو مَوْصُوفة، و " ألقى " هنا ماضي اللَّفْظِ، إلا أنه بمعنى المُسْتقبل، أي: لمن يُلْقَي، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عمّا وقع وانْقَضَى، والمَاضِي إذا وقع صِلَة، صَلح للمُضِيِّ والاسْتِقْبَال.

وقرأ نافع وابن عَامِر وحَمْزة: " السَّلَم " بفتح السِّين واللام من غير ألف، وباقي السَّبْعَة: " السَّلام " بألف، ورُوي عن عَاصِمٍ: " السَّلْم " بكسر السِّين وسكون اللام، فأما " السَّلام " فالظَّاهِر أنه التَّحيّة.

والمعنى: لا تُقُولوا لمن حَيَّاكم بهذه التَّحِيّة إنه إنَّما قَالَها تَعَوُّذَاً فتُقْدِمُوا عليه بالسَّيْف لتأخذوا مَالَه، ولكن كُفُّوا عَنْهُ، واقْبَلُوا منه ما أظْهَرَهُ.

وقيل: مَعْنَاه: الاستسْلام والانْقياد، والمعنى: لا تَقُولوا لمن اعْتَزَلَكُم ولم يقاتلكم: لَسْتَ مُؤمِناً، وأصْل هذا من السَّلامة؛ لأن المعتزل عن النَّاس طالبٌ للسَّلامة.

السابقالتالي
2 3 4