لما نهى عن قتل المُؤمِن، أمر المُجَاهِدِين بالتَّثَبُّت في القتل؛ لئلاَّ يسْفِكُوا دماً حَرَاماً بتأويل ضَعِيفٍ، والضَّرْب في الأرْض مَعْنَاه: السَّيْر فيها بالسَّفر للتِّجَارة والجِهَاد، وأصْله من الضَّرْب باليَدِ، وهو كِنَايَة عن الإسْرَاع في السَّيْر، فإن من ضَرَب إنْسَاناً، كانت حَرَكة يَدِهِ عند ذلك الضَّرْب سَرِيعَة. قال الزَّجَّاج: معنى { ضربتم في سبيل الله }: إذا غَزَوْتُم وسِرْتُم إلى الجِهَاد. قال القُرْطُبي: تقول العَرَب: ضَرَبْتُ في الأرْضِ، إذا سِرْتَ لتِجَارَةٍ أو غزوٍ أو غيره مُقْتَرِنَة بفي، وتقول: ضَرَبْت الأرْض دون " في " إذا قَصَدْت قَضَاء حَاجَة الإنْسَان؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام -: " لا يَخْرُجُ الرَّجُلان يضربان الغَائِطَ يتحدَّثَان، كَاشِفين عن فَرْجَيْهما، فإن الله يَمْقُتُ على ذَلِكَ " وفي " إذا " مَعْنَى الشَّرْط، فلذلك دَخَلَت الفَاءُ في قوله: " فتبينوا " وقد يُجَازى بها كقوله: [الكامل].
1865أ-....................
وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
والجيِّد ألا يُجَازى بها لقول الشَّاعر: [الكامل]
1865ب- والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا
وإذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
قوله: " فتبينوا ": قرأ الأخوان من التَّثبُّت، والباقُون من البَيَان، هما متقاربان؛ لأن مَنْ تَثبت في الشَّيْء تَبَيَّنه، قاله أبو عبيد، وصحَّحه ابن عطيَّة. وقال الفَارِسيّ: " التثبُّت هو خِلاَف الإقْدام والمُرَاد التَّأنِّي، والتَّثَبُّت أشد اخْتِصَاصاً بهذا المَوْضِع؛ بدل عليه قوله:{ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [النساء: 66] أي: أشدٌّ وَقْعَاً لهم عَمَّا وُعِظوا به بألاَّ يُقْدِمُوا عليه " فاختارَ قراءة الأخوين. وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة، قالوا: لأن المتثبِّت قد لا يَتَبيَّن، وقال الرَّاغب: لأنه قلَّ ما يكون إلا بَعْدَ تثبُّت، وقد يَكُون التَّثبُّت ولا تبيُّنَ، وقد قُوبِل بالعَجَلة في قوله - عليه الصلاة والسلام -: " التبيُّن من الله والعَجَلُة من الشيطان " وهذا يُقَوِّي قراءة الأخَوَيْن أيضاً، و " تَفَعَّل " في كلتا القراءتين بمعنى اسْتَفْعَل الدال على الطَّلب، أي: اطلبوا التثَبُّت أو البيان. وقوله: " لمن ألقى " اللام للتَّبْلِيغ هنا، و " من " مَوْصُولة أو مَوْصُوفة، و " ألقى " هنا ماضي اللَّفْظِ، إلا أنه بمعنى المُسْتقبل، أي: لمن يُلْقَي، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عمّا وقع وانْقَضَى، والمَاضِي إذا وقع صِلَة، صَلح للمُضِيِّ والاسْتِقْبَال. وقرأ نافع وابن عَامِر وحَمْزة: " السَّلَم " بفتح السِّين واللام من غير ألف، وباقي السَّبْعَة: " السَّلام " بألف، ورُوي عن عَاصِمٍ: " السَّلْم " بكسر السِّين وسكون اللام، فأما " السَّلام " فالظَّاهِر أنه التَّحيّة. والمعنى: لا تُقُولوا لمن حَيَّاكم بهذه التَّحِيّة إنه إنَّما قَالَها تَعَوُّذَاً فتُقْدِمُوا عليه بالسَّيْف لتأخذوا مَالَه، ولكن كُفُّوا عَنْهُ، واقْبَلُوا منه ما أظْهَرَهُ. وقيل: مَعْنَاه: الاستسْلام والانْقياد، والمعنى: لا تَقُولوا لمن اعْتَزَلَكُم ولم يقاتلكم: لَسْتَ مُؤمِناً، وأصْل هذا من السَّلامة؛ لأن المعتزل عن النَّاس طالبٌ للسَّلامة.