الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }

لما ذكر القتْل الخَطَأ، ذكر بعده بيان حُكم قتل العَمْدِ، وله أحكام مِثْل وُجُوب القِصَاص والدِّيَة، وقد ذُكر في سُورة البَقَرة عند قوله - [تعالى] -يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [البقرة: 178] لا جرم اقْتَصَر هَهُنَا على بَيَان الإثْمِ والوَعِيد.

وقوله: " معتمداً ": حالٌ من فَاعِل " يقتل " ، وروي عن الكَسَائِيّ سكون التَّاء؛ كأنه فَرَّ من تَوالِي الحَرَكَات، و " خالداً " نصْبٌ على الحَالِ من محْذُوف، وفيه تقديران:

أحدهما: " يجزاها خالداً فيها " ، فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضَّمِير المَنْصُوب أو المَرْفُوع.

والثاني: " جازاه " ، بدليل { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } فعطفَ المَاضِي عليه، فعلى هذا هي حَالٌ من الضَّمِير المنصوب لا غيرُ، ولا يجُوزُ أن تكون حالاً من الهَاءِ في " جزاؤه " لوجهين:

أحدهما: أنه مُضَافٌ إليه، [ومَجِيء الحَالِ من المُضَاف إليه] ضعِيفٌ أو مُمْتَنع.

والثاني: أنه يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بين الحَالِ وصاحبها بأجْنَبِيٍّ، وهو خبرُ المبتدأ الذي هو " جهنم ".

فصل: سبب نزول الآية

نَزَلَت [هذه الآية] في مقيس بن ضبابة الكِنْدِي، وكان قد أسْلَم هو وأخُوه هِشَامٌ، فوجد أخَاه هِشَاماً قَتِيلاً في بَنِي النَّجَّار، فأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له [ذلك]، فأرسل رسُول الله صلى الله عليه وسلم معه رَجُلاً من بَنِي فهر إلى بَنِي النَّجَّار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُكم إن عَلِمْتُم قاتل هِشَام بن ضبابة [أن تدفَعُوه] إلى مقيس فيقتصَّ منه، وإن لم تَعْلَمُوه أن تَدْفَعُوا إليْه ديته، فأبلغهم الفِهري ذلك: فَقَالوا: سمعاً وطاعَةً لله ولرسُولِه، ما نَعْلَم له قَاتِلاً ولكنَّا نُؤدِّي ديته، فأعطوهُ مِائة من الإبل، ثم انْصَرَفَا راجِعَيْن إلى المّدِينَة، فأتَى الشَّيْطَان مقيساً فوسْوَس إليه، فقال: تقبل دِيَة أخيك فَتَكُون عليك مَسَبَّة، اقْتُل الذي ركب بَعِيراً منها وسَاقَ بقيَّتِها راجعاً إلى مَكَّة [كَافِراً] فنزل فيه: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها } بكفره وارتداده، وهو الَّذِي استثْنَاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم فَتْح مَكَّة عَمَّنْ أمَّنَهُ، فَقُتِل وهو مُتَعَلِّق بأستار الكَعْبَة، { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [أي: طَرَدَهُ عن الرَّحْمَة] { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }.

فصل: اختلاف العلماء في شبه العمد

قال القرطبي: ذكر الله - عز وجل - في كتابه العَمْد والخطأ، ولم يذكر شِبْهَ العَمْد، وقد اختلف العُلَمَاء في القَوْل به:

فقال ابن المُنْذِر: وأنكر ذَلِكَ مَالِك؛ وقال: ليس في كِتاب اللَّه إلا العمْدَ والخَطَأ وذكره الخَطَّابي أيضاً عن مَالِك، وزاد: أما شبه العَمْد فلا نَعْرِفُه.

قال أبو عمرو: أنكر مَالِك واللَّيْث بن سَعْد شبه العَمْد، فمن قُتِلَ عِنْدَهُمَا بما لا يَقْتُل مثلُه غَالِباً؛ كالعضّة واللَّطْمة، وضرب السَّوْط ونحوه؛ فإنه عَمْد وفيه القَوَد، قال: وهو قول جَمَاعَةٍ من الصَّحَابة والتَّابعين، وذهب جُمْهُور فقهاءِ الأمْصَار إلى أن هذا كُلّه شبع العَمْد.

السابقالتالي
2 3 4