كما رَغَّب في مُقَاتَلة الكُفَّار، ذكر بَعْدَهَا ما يتعلَّق بالمُحَارَبَة، ولا شَكَّ أنَّه قد يَتَّفِقُ أن يرمي الرَّجُلُ رجُلاً يَظُنُّه كافراً حَرْبِيَّا فيقْتُلهُ، ثم يتبين أنَّه مُسْلِمٌ، فذكر الله - تعالى - حكْم هَذِهِ الوَاقِعَة. قوله - تعالى -: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن }. قد تقدَّم الكلام في نَظِير هذا التَّركيب عند قوله - تعالى -:{ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } [البقرة: 114]. وقوله: { إِلاَّ خَطَئاً } فيه أرْبَعة أوجُه: أحدُها: أنه اسْتثنَاء منقَطِع - وهو قولُ الجُمْهُور - إنْ أُريد بالنَّفِي معناه، ولا يجُوزُ أن يكُون مُتَّصِلاً، إذ يصير المَعْنَى: إلا خَطَأ فله قَتْلُه. والثاني: أنه مُتصلٌ إنْ أُريد بالنَّفْي التحريمُ، ويَصِير المَعْنَى: إلا خطأ بأن عَرَفَه أنَّه كَافر فَقَتَله، ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً. الثالث: أنه استِثْنَاء مُفَرَّغ، ثم في نَصْبِه ثلاثة احْتِمَالاتٍ: الأوَّل: أنه مَفْعُول له، أي: ما يَنْبَغِي له أن يَقْتُلَه [لعلَّة من الأحْوَالِ، إلا للخَطَأ وحده. الثاني: أنه حَالٌ، أي: ما يَنْبَغي له أن يَقْتُله] في حال من الأحْوَالِ، إلا في حَالِ الخَطَأَ. الثالث: أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذُوف، أي: إلا قَتْلاً خَطَأ، ذكر هذه الاحْتمَالات الزَّمَخْشَرِيُّ. الرابع: من الأوْجه: أن تكون " إلا " بمعنى " ولا " والتقدير: وما كان لمُؤمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤمِنَاً عَمْداً ولا خَطَأ، ذكره بعضُ أهْلِ العِلْم، حكى أبُو عُبَيْدة عن يُونُس قال: سألتُ رُؤبة بن العَجَّاج عن هَذِه الآيَةِ، فقال: " ليس أنْ يَقْتُلَهُ عَمْداً ولا خَطَأ " فأقام " إلاَّ " مقامَ الوَاوِ؛ وهو كقول الشَّاعِر: [الوافر]
1862- وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ
لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِ
إلا أن الفَرَّاء ردَّ هَذا القَوْلَ؛ بأن مثل ذلك لا يجُوزُ، إلا إذا تقدَّمه استِثْنَاءٌ آخر، فيكونُ الثَّانِي عطفاً عليه: كقوله: [البسيط]
1863- مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ
دَارُ الْخَلِيفَةِ إلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
وهذا رَأي الفراء، وأمَّا غَيْرُه، فيزعم أنَّ " إلا " تكون عَاطِفَة بمعنى الوَاوِ من غَيْر شَرْطِ، وقد تقدَّم تَحْقِيقٌ هذا في قوله:{ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة: 150]. وقرأ الجُمْهُور: " خطأ " مهموزاً بوزْنِ " نبأ " ، والزهري: " خَطَا " بوزن " عَصَا " ، وفيها تخريجان: أحدُهُمَا: أنه حَذَف لام الكَلِمَة تَخْفِيفاً، كما حَذَفُوا لام دَم، ويد أخ وبابها. والثاني: أنه خَفَّف الهَمْزَة بإبدالها ألفاً، فالتقت مع التَّنْوين؛ فَحُذِفت لالتِقَاء السَّاكِنيْن، كما يُفْعَل ذلك بِسَائِر المَقْصُور، والحسن قرأ: " خَطَاءً " بوزن " سَمَاء ". فصل ذكر المُفسِّرون في سَبَبِ النَّزُول وُجُوهاً: أحدها: روى عُرْوة بن الزُّبَيْر: أن حُذيْفَة بن اليَمَان قَاتَل مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْم أُحُد فأخْطَأ المُسْلِمَون، وظَنُّوا أن أبَاهُ اليَمَان وَاحداً من الكُفَّار، فضَرَبُوه بأسْيَافِهم، وحُذَيْفَة يَقُول: إنَّه أبي، فلم يَفْهَمُوا قولَه إلا بعد أنْ قَتَلُوه، فقال حُذَيْفَة: يَغْفِر اللَّه لكم وهو أرحم الرَّاحِمِين، فلما سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذلك، ازْدَاد وَقْع حُذَيْفَة عِنْدَه، فَنَزَلَت هَذِه الآية.