الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

كما رَغَّب في مُقَاتَلة الكُفَّار، ذكر بَعْدَهَا ما يتعلَّق بالمُحَارَبَة، ولا شَكَّ أنَّه قد يَتَّفِقُ أن يرمي الرَّجُلُ رجُلاً يَظُنُّه كافراً حَرْبِيَّا فيقْتُلهُ، ثم يتبين أنَّه مُسْلِمٌ، فذكر الله - تعالى - حكْم هَذِهِ الوَاقِعَة.

قوله - تعالى -: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن }.

قد تقدَّم الكلام في نَظِير هذا التَّركيب عند قوله - تعالى -:مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } [البقرة: 114].

وقوله: { إِلاَّ خَطَئاً } فيه أرْبَعة أوجُه:

أحدُها: أنه اسْتثنَاء منقَطِع - وهو قولُ الجُمْهُور - إنْ أُريد بالنَّفِي معناه، ولا يجُوزُ أن يكُون مُتَّصِلاً، إذ يصير المَعْنَى: إلا خَطَأ فله قَتْلُه.

والثاني: أنه مُتصلٌ إنْ أُريد بالنَّفْي التحريمُ، ويَصِير المَعْنَى: إلا خطأ بأن عَرَفَه أنَّه كَافر فَقَتَله، ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً.

الثالث: أنه استِثْنَاء مُفَرَّغ، ثم في نَصْبِه ثلاثة احْتِمَالاتٍ:

الأوَّل: أنه مَفْعُول له، أي: ما يَنْبَغِي له أن يَقْتُلَه [لعلَّة من الأحْوَالِ، إلا للخَطَأ وحده.

الثاني: أنه حَالٌ، أي: ما يَنْبَغي له أن يَقْتُله] في حال من الأحْوَالِ، إلا في حَالِ الخَطَأَ.

الثالث: أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذُوف، أي: إلا قَتْلاً خَطَأ، ذكر هذه الاحْتمَالات الزَّمَخْشَرِيُّ.

الرابع: من الأوْجه: أن تكون " إلا " بمعنى " ولا " والتقدير: وما كان لمُؤمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤمِنَاً عَمْداً ولا خَطَأ، ذكره بعضُ أهْلِ العِلْم، حكى أبُو عُبَيْدة عن يُونُس قال: سألتُ رُؤبة بن العَجَّاج عن هَذِه الآيَةِ، فقال: " ليس أنْ يَقْتُلَهُ عَمْداً ولا خَطَأ " فأقام " إلاَّ " مقامَ الوَاوِ؛ وهو كقول الشَّاعِر: [الوافر]
1862- وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ   لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِ
إلا أن الفَرَّاء ردَّ هَذا القَوْلَ؛ بأن مثل ذلك لا يجُوزُ، إلا إذا تقدَّمه استِثْنَاءٌ آخر، فيكونُ الثَّانِي عطفاً عليه: كقوله: [البسيط]
1863- مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ   دَارُ الْخَلِيفَةِ إلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
وهذا رَأي الفراء، وأمَّا غَيْرُه، فيزعم أنَّ " إلا " تكون عَاطِفَة بمعنى الوَاوِ من غَيْر شَرْطِ، وقد تقدَّم تَحْقِيقٌ هذا في قوله:لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة: 150].

وقرأ الجُمْهُور: " خطأ " مهموزاً بوزْنِ " نبأ " ، والزهري: " خَطَا " بوزن " عَصَا " ، وفيها تخريجان:

أحدُهُمَا: أنه حَذَف لام الكَلِمَة تَخْفِيفاً، كما حَذَفُوا لام دَم، ويد أخ وبابها.

والثاني: أنه خَفَّف الهَمْزَة بإبدالها ألفاً، فالتقت مع التَّنْوين؛ فَحُذِفت لالتِقَاء السَّاكِنيْن، كما يُفْعَل ذلك بِسَائِر المَقْصُور، والحسن قرأ: " خَطَاءً " بوزن " سَمَاء ".

فصل

ذكر المُفسِّرون في سَبَبِ النَّزُول وُجُوهاً:

أحدها: روى عُرْوة بن الزُّبَيْر: أن حُذيْفَة بن اليَمَان قَاتَل مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْم أُحُد فأخْطَأ المُسْلِمَون، وظَنُّوا أن أبَاهُ اليَمَان وَاحداً من الكُفَّار، فضَرَبُوه بأسْيَافِهم، وحُذَيْفَة يَقُول: إنَّه أبي، فلم يَفْهَمُوا قولَه إلا بعد أنْ قَتَلُوه، فقال حُذَيْفَة: يَغْفِر اللَّه لكم وهو أرحم الرَّاحِمِين، فلما سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذلك، ازْدَاد وَقْع حُذَيْفَة عِنْدَه، فَنَزَلَت هَذِه الآية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10