الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }

في النَّظْم وجْهَان:

أحدهما: أنَّه لما أمَرَ المُؤمِنِين بالجهاد، أمَرَهُمْ أيضاً بأن الأعْدَاء لو رَضُوا بالمُسَالَمَةِ فكونوا أنْتُم [أيضاً] رَاضِين بها، فقوله: { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } كقوله - تعالى -:وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } [الأنفال: 61].

والثَّانِي: أن الرَّجُل [في الجِهَاد] كان يلْقَّاهُ الرَّجُل في دَارِ الحَرْبِ أو ما يُقارِبُها، فَيُسَّلمُ عليه فقد لا يَلْتَفِتُ إلى سلامِهِ [ويقتله]، وربَّمَا ظَهَر أنَّهُ كان مُسْلِماً، فأمرهم بأن يُسَلِّم عليهم أو يُكْرِمهم، فإنهم يقابلونه بمثل ذَلِكَ الإكْرَام أو أزْيَد، فإن كان كَافِراً، لم يَضُرَّ المسلم مُقَابَلَة إكْرَام ذلك الكَافِر بنوع من الإكْرَام، وإن كان مسلماً فَقَتَلَه، ففيهِ أعْظَم المَضَارِّ والمفَاسِدِ، ويقال: التحية [في الأصْلِ]: البَقَاءِ والمِلْكُ.

قال القُرْطُبِي: قال عبد الله بن صَالحِ العِجْليّ: سألت الكسَائِيُّ عن قوله: " التحيات لله " ما مَعْنَاهَا؟ فقال: التَّحِيَّاتُ مثل البَرَكَاتِ، قلت: ما معنى " البَركات "؟ فقال: ما سَمِعْت فيها شَيْئاً، وسألْتُ عنها مُحَمَّد بن الحسن [فقال]: هو شَيْءٌ تعبّد الله به عبادَهُ، فقدِمْتُ الكُوفَة فلقيت عَبْدَ الله بن إدْرِيس، فقلت: إني سَألْت الكسَائيَّ، ومحمَّد عن قَوْله: " التحيات لله " فأجَابَنِي بكذا وكذا، فقال عَبْد اللَّه بن إدْرِيس: إنه لا عِلْم لهما بالشَّعْرِ وبهذه الأشْيَاءِ، التَّحِيَّة: المُلك وأنْشَدَهُ: [الوافر]
1851- أؤمُّ بِهَا أبَا قَابُوسَ حَتى   أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بجُنْدِي
وقال آخَر: [مجزوء الكامل]
1852- وَلِكُلِ مَا نَالَ الفَتَى   قَدْ نِلْتُهُ إلاَّ التَّحِيَّهْ
ويقال: التَّحِيَّة: البَقَاء والمُلْك، ومنه: " التحيات لله " ، ثم استُعملت في السلام مَجَازاً، ووزنها، تَفْعِلة من حَيَّيْت، وكان في الأصْل:تحيية؛ مثل: تَوْصية وتَسْمِيَة، والعرب تؤثر التَّفْعِلة على التَّفْعيلِ [في] ذَوَاتِ الأرْبَع؛ نحو قوله:وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [الواقعة: 94].

والأصل: تَحْيِِيَة فأدغمت، وهذا الإدغَامُ واجبٌ خِلافاً للمَازِني، وأصْل الأصْل تَحْيِيُّ؛ لأنه مَصْدُر حَيّا، وحَيّا: فَعَّل، وفَعَّل مَصْدره على التَّفْعِيل، إلا أن يَكُون مُعْتَلَّ اللامِ؛ نحو: زكَّى وغَطَّى، فإنه تحذف إحْدَى اليَاءَيْن ويعوَّض منها تَاء التَّأنيثِ؛ فيقال: تَزْكِيه وتغْطِيَة، إلا ما شَذَّ من قوله: [الرجز]
1853- بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا   كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا
إلا أن هذا الشُّذُوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو: " حَيّا " لاعتلالِ عَيْنه ولامه باليَاءِ، وألحق بعضُهم ما لامُه هَمْزَةٌ بالمُعْتَلِّها، نحو: " نَبّأ تَنْبئةً " و " خَبَّأ تَخْبِئَةً "؛ ومثلها: أعيِيَة وأعيَّةٌ، جمع عَيِيٍّ.

وقال الرَّاغِب: وأصلُ التَّحِيَّة من الحياة، ثم جُعِل كلُّ دُعَاءٍ تحيّةً؛ لكون جميعه غير خَارجٍ عن حُصُولِ الحياة أو سَبَبِ الحَيَاةِ، وأصل التحية أن تَقُول: " حياك الله " ثم اسْتُعْمِل في الشَّرْعِ في دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ.

وجعل التحيَّة اسْماً للسَّلام؛ قال: - تعالى -:تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [الأحزاب: 44]، ومنه قول المُصَلِّي: " التحيات لله " أي: السَّلامة من الآفاتِ للَّه.

السابقالتالي
2 3 4