الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً }

في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه:

أحدها: أنه - تعالى - لمَّا أمَر الرَّسُول - [عليه الصلاة والسلام] - بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ، بيَّن في هذه الآية أنَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا، والغَرَض مِنْه: أنه - عليه الصلاة والسلام - يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً.

وثانيها: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يوصِيهم بالقِتَال، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ، فنهى [الله] عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة، وبيَّن أن [هَذِه] الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ، كانت مُحَرَّمَة.

وثالِثُها: أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد، فصار غَيْرُهُ من المُؤمنِين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر؛ ليعِيِنه على الجِهَاد، والشَّفَاعَة مأخُوذَدٌ من الشَّفْع وهو الزَّوج من العَدَد، ومنه الشَّفِيع، [وهو] أن يَصِير الإنْسَان [نفسه] شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا، [ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ: إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ، وناقة شَفِيعٌ: إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها، والشُّفْعَةُ: ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك، فهي على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشَفِّع، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له] فيكون المُرَادُ: تَحْرِيض النَّبِيِّ - عليه الصلاة والسلام - إيَّاهم على الجِهَاد؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً لَهُم في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة.

وقي: المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف.

ونقل الوَاحِديُّ عن ابن عبَّاس؛ ما معناه: أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار، والشفاعة السَّيِّئَة: أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار، وقيل: الشَّفَاعة الحَسَنَة: ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [عند مُؤمِنٍ] آخَرِ؛ في أن يُحَصِّلَ له آلات الجِهَاد، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ؛ أن الشفاعة الحَسَنة [هي الإصلاح بين النَّاس، والشَّفَاعة السَّيِّئة، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ.

وقيل]: هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيّئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ. والمراد بالكفل: الوِزْر.

قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ: المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض، فإن كان في ما يَجُوز، فهو شَفَاعة حَسَنَة، وإن كان فِيمَا لا يجُوز، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة.

قال ابن الخَطيب: هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ.

السابقالتالي
2