الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } * { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } * { وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً }

قال القًرْطُبِي: إنه - تعالى - لمّا ذكر طاعة اللَّه وطَاعَة رسُولِهِ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم.

وقال ابن الخطيب: لما رغَّب في طاعة اللَّهِ وطاعةِ رسُوله، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين، والحَذَر والحِذْر بمعنى؛ كالأثر والإثْر؛ والمَثَل والمِثْل، والشَّبَه والشِّبْه.

قيل: ولم يُسْمَع في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك.

يقال: أخَذَ حِذْرَهُ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه، والمَعْنَى: احْذَرُوا واحْتَذِرُوا من العَدُّوِّ، ولا تمكِّنُوه من أنفُسِكم.

وقال الوَاحِدِيُّ: فيه قَوْلاَنِ:

أحدهما: المُرَاد بالحِذْرِ [ها] هُنَا السِّلاح، والمعنى: خُذُوا سِلاَحَكُم، والسِّلاح يسمى حِذْراً؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر.

والثاني: " خذوا حذركم " بمعنى: احْذَرُوا عَدُوَّكم، فعلى الأوَّل: الأمْر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به، وعلى الثَّانِي: أخذ السِّلاح مَدْلُول عليه بِفَحْوَى الكَلامِ.

فإن قيل: إنَّ الَّذِي أمَر اللَّه - تعالى - بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُفْضي إلى الوُجُودِ، لم يَنْعَدِم، وإن كان الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ، فلا حَاجَة إلى الحذْر، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث، قال - عليه السلام -: " المَقْدُورُ كَائِنٌ " وقيل: الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر.

فالجوابُ: أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع؛ فإنه يُقَالُ: إن كان الإنْسَان من أهْلِ السَّعَادة في قَضَاءِ اللَّه وقدرِه، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ، لم ينْفَعْه [الإيمانُ و] الطَّاعَة، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة.

واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء اللَّه - تعالى - كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر، وكان قَوْل القَائِل: أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَاقِضاً؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ.

قوله: " فانفروا [ثبات] " يقال: نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ، وخَرَجُوا للحَرْبِ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون: إذا حَثَّهُم على النَّفِير وَدَعَاهُم إلَيْه؛ ومنه قوله - عليه السلام -: " [و] إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا " والنَّفِير: اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون؛ ومنه يُقال: فلان لاَ فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ.

وقال النُّحَاة: أصْلُ هذا الحَرْف من النُّفُور والنِّفَارِ؛ وهو الفَزَع، يقال: [نَفر] إليه؛ ونَفَر مِنْهُ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ، وفي مُضَارعه لُغَتَان: ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا، وقيل: يُقَال: نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش: " فانفُروا " " أو انفُروا " بالضم] فيهما، والمَصْدَر النَّفِير، والنُّفُور، والنَّفْر: الجماعة كالقَوْم والرَّهْط.

السابقالتالي
2 3 4 5 6