الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }

لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ، وشرحَ وعِيدَهُم؛ عاد إلى التَّكْلِيف، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتَابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ، حيث قالُوا للذين كَفرُواهَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [النساء: 51] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ، أو دُنْيَويَّة.

قوله: { أَن تُؤدُّواْ } مَنْصُوبُ المحلّ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع " أنْ " ، إذَا أمِنَ اللَّبْس؛ لطولهما بالصِّلَةِ، وإما لأنَّ " أمر " يتعدى إلى الثَّاني بنفسه، نحو: أمَرْتُكَ الخَيْرَ، فعلى الأوَّل يَجْري [الخلاف في مَحَلِّها، أهي في مَحَلّ نصب، أم جر، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط، وقرئ " الأمانة " ].

فصل: فيمن نزلت الآية؟

نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ، فلمَّا دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ، وصَعَدَ السَّطْحَ، فطلبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيلَ: إنَّه مع عثمان، فَطَلَبَهُ منه فأبى، وقال: لو عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللَّهِ [صلى الله عليه وسلم] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده، وأخذ منه المفتاح، وفَتَح البَابَ، ودخل رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البيت، وصلّى فيه ركعتين، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [المفتاحَ] أن يعطيه، ويجمع له بين السِّقَايَةِ، والسِّدَانة، فأنزل اللَّهُ - تعالى - هذه الآية، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ، وَيَعْتَذِرَ إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال عثمان: أكْرَهْتَ، وآذَيْتَ، ثم جئْتَ تَرْفُق، فقال: لقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في شأنِكَ، وَقَرَأ عليه الآية، فقال عُثْمَانُ: " أشْهَدُ [ألا إله إلاّ اللَّه و] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللَّهِ، وأسْلَمَ، وكانَ المِفْتَاحُ معه، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.

وقيل: المرادُ من الآية جميعُ الأمَانَاتِ.

واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسَانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه، أو مع العِبَادِ، أوْ مع نفسه. فمعاملة الرَّبِّ فهو: فعل المأمُورَات، وترك المَنْهيَّاتِ.

قال ابْنُ مَسْعُودٍ: الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ؛ في الوُضُوءِ، والجَنَابَةِ، والصَّلاةِ، والزَّكَاةِ، والصَّوْم.

[قال أبُو نُعَيْم الحَافِظُ في " الحِلْيَةِ ": ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع: البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ.

قالوا: الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ، في الوضوء، والجنابة، والصّلاة، والزكاةِ، والصّوم، والكيل، والوزن، والودائع.

قال ابْنُ عبَّاسٍ: لم يرخص اللَّهُ لمُعْسِرِ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة].

وقال ابْنُ عُمَرَ: " إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان، قال: " هذَا أمانةٌ [خَبَّأتُهَا] عِنْدَكَ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا ".

السابقالتالي
2 3 4 5