الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً } * { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } * { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً }

لمَّا وصف [تعالى] اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ.

والبخلُ: ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ، [والحَسَدُ: أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللَّهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم] فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ، والحَسَدِ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا، ومَنَعَ هذا.

واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ [للغير مكروهٌ لِذَاته، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر] بالإحسانِ الحسن؛ كما قيل: " بالبر يستعبد الحر " ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ، لَمْ يُوجد الانقيادُ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ الجُودِ، والكَرَمِ، والرَّحْمَةِ، والشَّفَقَةِ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

و " أم " مُنقطعةٌ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر بـ " بَلْ " ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار، وكذلك هُو في قوله: { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } وقال بعضُهم: الميمُ صلة، وتقديره: ألَهُمْ؛ لأنَّ حَرْفَ " أمْ " إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه، وقيل: " أمْ " هنا مُتصلةٌ، وقد سبقه - هاهنا - استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى؛ لأنَّهُ لمَّا حَكَى قَولَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } فكأنَّهُ قال: أمِنْ ذلك يتعجَّبُ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُمْ نَصِيبٌ من الملك؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ؟.

فصل في معنى " الملك "

اختلفوا في هذا { ٱلْمُلْكِ } ، فقيل: إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ: نحنُ أوْلَى بالملكِ، والنُّبوةِ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ؟ فأبطل اللَّهُ ذلك، بهذه الآيةِ.

وقيل: كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم، في آخرِ الزمانِ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُمْ؛ فَكَذَّبهم الله [تعالى] بهذه الآيةِ.

وقيل [المرادُ] بالمُلْكِ - هاهنا - التَّملِيكُ: يَعْنِي: أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ؛ لو كان التمليكُ إليهم، [و] لو كان التملِيكُ إلَيهمْ؛ لبخلوا بالنَّقِير، والقِطْمِيرِ. فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ والإثْبَاتِ.

قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ: كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ، وكانوا في عِزةٍ، ومَنَعَةٍ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ؛ فنزلت هذه الآيةُ.

قوله: " فإذن " حَرْفُ جَوَاب، [وجَزَاء] ونُونُها أصلية، قال مَكي [وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً] وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ الخَطِّ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [والوقف على نُونها بالألف، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ]، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ -هنا- بإعْمَالِهَا، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه: { لاَّ يُؤْتُونَ }.

السابقالتالي
2 3