قد تقدَّمَ الكلامُ على مِثْل قوله: " ألم تر " ، وقوله: " بل " ، إضْرَابٌ عَنْ تزكيتهم أنفُسَهُم، وقدّر أبُو البقاء قبل هذا الإضراب جُمْلَةً؛ قال: تقديرهُ: أخْطؤوا، { بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ }. [وقوله: " ولا يظلمون " ، يجوزُ أنْ يكونَ حَالاً ممَّا تقدَّم، وأنْ يكون مُسْتَأنفاً، والضميرُ في " يظلمون " يجوزُ أنْ يعود على " من يشاء " ] أيْ: لا يُنْقِصُ مِنْ تزكيتهم شيئاً، وإنَّما جَمَعَ الضميرَ؛ حَمْلاً على مَعْنى " من " وأنْ يَعُودَ على الذين يُزَكونَ، وأنْ يعُودَ على القَبِيليْن مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، وَمَنْ زَكَّاهُ اللَّه، فَذَاكَ لاَ يُنْقِصُ من عقابه شَيْئاً، وهذا لا يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئاً، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لأن " من " أقَرْبُ مَذْكُورٍ، ولأنَّ " بل " إضرابٌ مُنْقطعٌ ما بَعْدَهَا عمَّا قَبْلَهَا. وقال أبُو البَقَاءِ: ويجوزُ أن يكُونَ مُسْتأنَفاً، أيْ: منْ زَكَّى نَفْسَه، ومَنْ زَكَّاهُ اللَّهُ. انتهى. فجعل عودَ الضميرِ على الفَريقَيْنِ؛ بِناءً على وَجْهِ الاسْتِئْنافِ، وهذا غيرُ لازِمٍ [بل] يجوزُ عودهُ عَلَيْهِمَا، والجملةُ حَالِيَّةٌ. و { فَتِيلاً } مَفعُولٌ ثانٍ؛ لأن الأولَ قامَ مَقَامَ الفاعِلِ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَعْت مَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، كما تقدَّمَ تقديره في:{ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: 40]، والفَتِيلُ: خَيْطٌ رَقيقٌ في شِقِّ النَّوَاة [يَضْرَبُ به المَثلُ في القِلَّةِ، قالَهُ ابنُ السِّكيتِ، وغيرُهُ. وقيل: هو مَا خَرَجَ مِنْ بيْن إصْبَعَيْكَ، أو كَفَّيْكَ مِنَ الوَسَخ] حين تَفْتُلُهُمَا، فهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ، وقد ضرب العَرَبُ المثلَ في القِلّةِ التافِهَةِ بأربَعةِ أشْيَاء، اجتمعْتَ في النواةِ، وهي: الفَتِيلُ، والنَّقِيرُ: وهو النُّقْرَةُ التي في ظهر النَّواةِ، والقِطْميرُ: هو القِشْرُ [الرقيقُ] فوقها [وهذه الثلاثةُ واردَةٌ في الكتابِ العزيز، والثُّفْروق: وهو ما بيْنَ النواةِ والقِمْع] الَّذِي يكُونُ في رَأسِ التَّمرة كالعلاقَةِ بَيْنَهُمَا. فصل لما هَدّد اليهود بأنه تعالى لا يغفرُ أنْ يشركَ به، قالوا: لَسْنَا منَ المشركينَ، بل نحنُ مِنْ خَوَّاصِّ اللَّهِ. قال الكَلْبيُّ: " نزلت هذه الآيةُ في رِجَالٍ مِنْ اليهودِ: منهم " بَحْرى بنُ عُمَرَ " ، و " النُّعْمانُ بنُ أوْفَى " ، و " مَرْحَبُ بنُ زَيْدٍ " أتَوْا بأطْفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقَالُوا: يا محمدُ [هَلْ] على هَؤلاءِ مِنْ ذنْبٍ؟ فقال: لاَ، قالوا: ما نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئتهم، ما عَمِلْنَا بالنهار، يُكَفَّر عنّا بالليل، وما عملنا بالليل، يكفرُ عنَّا بالنهار، " ، فنزلت هذه الآيةُ. وقال مُجاهِدٌ، وعكْرمة: كانُوا يُقدِّمُونَ أطْفَالَهُم في الصلاةِ، يَزْعمُوَن أنَّهم لا ذُنُوبَ لَهُم، فتِلْكَ التزكيةُ. وقال الحَسنُ، والضحاكُ، وقتادةُ، ومقاتلٌ: نزلت في اليهودِ، والنصارى، حينَ قَالُوا:{ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18]{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111]. قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ: هو تزكيةُ بعضِهم لِبَعضٍ. فصل التَّزْكِيَةُ - ها هنا - عِبارةٌ عنْ مَدْح الإنْسَانِ نَفْسَهُ. قال تعالى:{ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [النجم:32] والتَّقْوَى: لا يَعْلَمُ حقيقتَها إلاَّ الله تعالى. فإن قيل: ألَيْسَ قد قال - عليه الصلاة والسلام -: " واللَّهِ، إنّي لأمِينٌ في السَّماءِ، وأمِينٌ في الأرْضِ ". فالجوابُ: إنَّما قال ذلك حين قال المنافِقُون له: اعدِلْ في القِسْمة؛ ولأنَّ الله تعالى لمَّا زكَّاهُ أوَّلاً بِقِيَامِ المعْجزةِ، جاز له ذَلِكَ، بخلافِ غيرِه.