الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً }

لما توعَّدَ الكُفْرُ، وبين أنَّ ذلك التقديرَ لا بُدَّ من وُقُوعِهِ، يَعْنِي: أنَّ ذلك إنَّما هو مِنْ خَواص الكُفْرِ، أمَّا سَائِرُ الذُّنُوبِ غيرَ الشِّرْكِ، فإنه يَغْفِرُها، إن شاءَ.

قال الكَلْبِيُّ: " نزلتْ في وَحْشِيّ بن حَرْبٍ، وأصحابه؛ وذلك أنَّهُ لما قُتِل حَمْزَةُ، كان قد جُعِلَ له على قَتْلِه أنْ يُعْتَقَ، فلم يُوفَّ له بذلك، فلما قَدمَ مَكَّةَ، نَدِمَ على صُنْعِهِ، هُوَ، وأصحابُهُ؛ فكتَبُوا إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّا قَدْ نَدِمْنَا على الذي صَنَعْنَا، وإنَّه لَيْسَ يَمْنَعُنَا عن الإسلامِ إلاَّ أنَّا سَمعناكَ تَقُولُ بِمَكَّةَ: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا آخَرَ } [الفرقان: 68] الآياتِ، وقد دعونا مع الله إلهاً أخر، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا، فلوْلا هذه الآياتُ، لاتَّبَعْنَاك؛ فنزلت: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [الفرقان: 70]، الآيتين، فبعثَ بهما [رسول الله صلى الله عليه وسلم] إليهم فلما قرءُوا، كتبوا إليْهِ: إنَّ هذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ ألاَّ نَعْمَلَ عَمَلاً صالحاً فنزلَ: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ، فَبَعَثَ بها إليهمْ، فبَعَثُوا إليه: إنَّا نَخَافُ ألاَّ نكون مِنْ أهْلِ المشيئةِ؛ فنزلتْ: { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [الزمر: 53] فبعث بها إليهم؛ فَدَخَلُوا في الإسلامِ، ورجعُوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَبِل مِنْهم، ثم قال [عليه الصلاة والسلام] لِوَحْشِي: " أخْبِرْنِي: كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ "؟ فلَمَّا أخْبَرَهُ، قال: " وَيْحَكَ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي " فَلَحِقَ وَحْشِيٌّ بالشَّامِ، وكانَ بِهَا إلى أنْ ماتَ.

وروى أبُو مِجْلَز، عن ابْنِ عُمَر: " لمَّا نزلت: { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية، قام رَجُلٌ، فقال: والشِّرْك يا رسُولَ الله، فَسَكَتَ، ثم قام إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أو ثلاثاً؛ فنزلتْ: " إن الله لا يغفر أن يشرك به " الآية، قال مُطْرِّفُ بنُ الشَّخِّير: قال ابنُ عُمَرَ: كُنَّا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا مَاتَ الرجلُ على كَبِيرَةٍ، شَهِدْنَا أنَّه مِنْ أهْلِ النَّارِ، حتى نزلتْ هذه الآيةُ، فأمْسَكْنَا عن الشَّهَادَاتِ.

حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أنَّ هذه الآيةَ أَرْجَى آيةٍ في القُرْآنِ.

قوله: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } ، كلامٌ مُسْتأنفٌ، ولَيْسَ عَطْفاً على { َيَغْفِرُ } الأوَّلِ؛ لفسادِ المعنى، والفَاعِلُ في { يَشَآءُ } ضميرٌ عَائِدٌ على اللَّه تعالى، ويُفْهَمُ مِنْ كلام الزمَخْشريّ: أنَّهُ ضميرٌ عائِدٌ على مَنْ في " لمنْ " لأنَّ المعنى عِنْدَه: إنَّ الله لا يغفرُ الشِّرْكَ لمن لا يشاء أن يغفر له؛ لِكَوْنِه مَاتَ على الشِّرْكِ، غَيْر تائِب مِنْه، ويغفرُ ما دُونَ ذَلِك لِمَنْ يشاءُ أنْ يغفرَ له، بكونه ماتَ تَائباً مِنَ الشِّرْكِ، و { لِمَن يَشَآءُ } متعلِّقٌ بـ { َيَغْفِرُ }.

السابقالتالي
2 3