الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }

" وذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كَلَّم أحْبَارَ اليَهُود: عَبْد اللَّهِ بن صوريا، وكَعْبَ بن الأشْرَف، فقال: يا مَعْشَر اليَهُود، اتَّقُوا اللَّه وأسْلِمُوا، والله إنكُم تَعْلَمُون أن الَّذِي جِئْتُم به الحَقّ، قالوا: ما نَعْرِفُ ذلك، وأصَرُّوا على الكُفْرِ؛ " فَنَزَلَت هذه الآية.

فإن قيل: كان يَجِبُ أن يأمُرهُم بالنَّظَرِ والتفكُّر في الدَّلاَئِل، حتى يكُون إيمانُهُم اسْتِدْلاليّاً، فلما أمرهُم بالإيمان ابْتِداءً؛ فكأنه - تعالى - أمَرَهُم بالإيمَانِ على سَبِيل التَّقْليد.

فالجوَابُ: أن هذا خِطابٌ مع أهْلِ الكتاب، وكانُوا عَالِمين بِهَا في التَّوْرَاة؛ ولهذا قال: { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي: من الآيَاتِ الموْجُودَة فِي التَّوْرَاة الدَّالة على نُبُوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام -.

قوله: { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ } متعلِّق بالأمْرِ في قوله: { آمِنُواْ } ونطمِسُ يكون متعدِّياً ومنه هذه الآية؛ ومثلها:فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } [المرسلات: 8] لبنائه للمَفْعُول من غير [حَرْف] جَرٍّ، ويكُون لازِماً، يقال: طَمَسَ المَطَرُ الأعلامَ، وطَمَست الأعْلامُ.

قال كعب: [البسيط]>
1808- مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذَّفْرَى إذَا عَرِقَتْ   عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ
وقرأ الجُمْهُور: { نَّطْمِسَ } بكسر الميم، وأبو رَجَاء بِضَمِّها، وهما لُغَتَان في المُضَارِع، وقدَّر بعضهم مُضافاً أي: " عيون وجوه " ويقوَّيه أن الطَّمْس للأعْيُن؛ قال - تعالى -:لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } [يس: 66].

فصل في معنى الطمس والخلاف فيه

الطَمْسُ: المَحْوُ؛ تقول العرب في وصف المفَازَةِ: إنها طَامِسَةُ الأعلامِ، وطَمس الطَّرِيق إذا دَرَسَ، وقد طَمَسَ اللَّه على بَصَرِه؛ إذا أزَالَهُ، وَطَمَست الرِّيحُ الأثَر: إذا مَحَتْهُ، وطَمَسْت الكِتَاب: إذا مَحَوْتَه، واخْتَلَفُوا في المراد بالطَّمْسِ هُنَا.

فقال ابن عباس: نَجْعَلُهَا كَخُفِّ البَعِير.

وقال قتادة والضَّحَّاك: نُعْميها.

وقيل: نمحو آثارهَا وما فيها من أعْيُن، وأنْف، وَفَم، وحَاجِب.

وقيل: نجعل الوُجُوه منابِتَ الشَّعَر، كوُجُوهِ القِرَدَةِ، وقيل: يجعلُ عَيْنَيْهِ في القَفَا؛ فَيَمْشِي القَهْقَرَى، وقيلَ: المرادُ بـ " الوجوهِ ": الوجَهَاءُ، والرؤسَاءُ.

ورُوِيَ: أنَّ عبد الله بْنَ سلامٍ، ولمّا سَمِعَ هذه الآية؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يأتِيَ أهْلُهُ، ويدَهُ على وَجْهِهِ، وأسْلَم، وقال: يا رسُولَ الله، ما كنتُ أرَى أنْ أصِلَ إليْك؛ حَتَّى يتحولَ وَجْهِي إلى قَفَايَ؛ وكذلك كعبُ الأحْبَارِ، لَمَّا سَمِعَ هذه الآيةَ، أسْلَمَ في زَمَنِ عُمَرَ، فقال: يا رَبِّ، آمَنْتُ، يا رَبِّ، أسلمتُ؛ مخافَةَ أنْ يُصِيبَه - وعيدُ هذه - الآية.

فإن قيلَ: قد أوعدهم بالطمْسِ إنْ لم يُؤمِنُوا، ولَمْ يَفْعَلْ ذلك بِهم؟

فالجوابُ: أنَّ الوَعِيدَ باقٍ، ويكونُ طَمْسٌ، ومَسخٌ في اليهود، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وقيل: إنَّه جَعَل الوِعيدَ: إمَّا الطمسَ، وإمَّا اللَّعْنَ، وقد فَعَلَ أحَدَهُمَا، وهو اللَّعْنُ.

وقيل: كان هذا وَعِيداً بشرطٍ فلما أسْلَمَ عبد الله بن سلام، وأصحابُه، رفع ذلك عن الباقينَ، وقيل: أرَادَ بِهِ في القيامةِ.

السابقالتالي
2