الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

قوله تعالى: [ { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } ] الآية.

لما حَكى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي.

قوله: { من الذين هادوا } فيه سَبْعَةُ أوْجُه:

أحدها: أن يكُون " من الذين " خبر مُقدم، و " يحرفون " جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذُوف هو مُبْتَدأ، تقديره: مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفُون، وحَذْف الموْصُوف بَعْد " مِنَ " التَّبِعِيضيَّة جَائِزٌ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً؛ كقولهم " مِنَّا ظَعَنَ، ومِنَّا أقَامَ " ، أي: فريقٌ أقام، وهذا مَذْهَب سيبويه والفارسِي؛ ومثله: [الطويل]
1805- وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا   أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ
أي: فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها.

الثاني: قول الفرَّاء، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً، تقدِيره: " من الذين هادوا من يحرفون " ، ويكون قد حمل على المَعنى في " يحرفون " قال الفرَّاء: ومِثْله [قول ذي الرِّمَّة] [الطويل]
1806- فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ   وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِالْيَدِ
قال: تقديره، ومنهم [مَنْ] دَمْعه سَابِقٌ لَهُ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ؛ لأنه جُزْءُ كلمة، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه، وهو: آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ، والتقدير: فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر.

الثالث: أن " من الذين " خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: " هم الذين هادوا " ، و " يحرفون " على هذا حَالٌ من ضمير " هادوا " وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله: " نصيراً ".

الرابع: أن يكون " من الذين " حَالاً [من فاعل " يريدون " قاله أبو البقاء، ومنع أن يكُون حالاً] من الضَّمير في " أوتوا " ومن " الذين " أعْنِي: في قوله - تعالى -: { ألم تر إلى الذين أوتوا } قال: لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ.

قال شهاب الدين: في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين: منهم من مَنَعَ، وَمِنْهم من جَوَّزَ، وهو الصَّحيح.

الخامس: أن { مِّنَ ٱلَّذِينَ } بيان للموصول في قوله:أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ } [آل عمران:23] لأنهم يهُود ونَصَارَى، فَبَيَّنَهُم باليهُودِ، قاله الزمخشري، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ } ، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ } ، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ }.

وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن، فما بالك بِثلاثٍ، قاله أبو حيان، وفيه نَظَرٌ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة، والعَطْفُ يصير الشَّيئيْن شيئاً واحِداً.

السادس: أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً، وقد عُرِف ما فيه.

السابع: أنه متعلِّق بـ { نَصِيراً } وهذه المادَّة تتعَدَّى بـ " مِن "؛ قال - تعالى -:

السابقالتالي
2 3 4 5