الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }

لمّا بيَّن أنه عَلِيم ببَواطِنِهم وظَواهِرِهم، بيَّن أنَّه كما علمها، لا يَظْلِم مثقال ذرَّة منها.

قوله: { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } فيها وَجْهَان:

أحدهما: أنه مَنْصُوب على أنه نَعْت لمصْدر مَحْذُوف، أي: لا يَظْلِم أحَداً ظُلْمَاً وَزْن ذَرَّة، فحذف المفْعُول والمَصْدر، وأقام نَعْتَه مَقَامه، ولمّا ذكر أبو البقاء هذا الوَجْه، قَدَّر قبله مُضَافاً مَحْذُوفَاً، قال تقْدِيره: ظلماً قَدْر مِثْقال ذرَّة، فحذفَ المَصْدر وصِفَتَه، وأقَام المُضَاف إلَيْه مَقَامَه، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن المثْقال نفسه هو قَدَرٌ من الأقْدَار، جُعِل مِعْيَاراً لهذا القَدَر المَخْصُوص.

والثاني: أنه مَنْصُوب على أنه مفعول ثانٍ لـ " يظلم " ، والأوّل، مَحْذُوف؛ كأنهم ضَمَّنُوا " يظلم " معنى " يغصب " أو " ينقص " فعَدَّوهُ لاثنين، والأصْل أن الله لا يَظْلِمُ أحَداً مِثْقَالَ ذَرَّة.

والمِثْقَال مِفْعَال من الثِّقَل، يُقال: هذا على مثال هَذَا، أي: وَزْنه، ومعنى الآيَةِ: أنه - تعالى - لا يَظْلَمِ أحداً لا قَلِيلاً ولا كَثِيراً، وإنما أخْرَجَهُ على أصْغَر ما يتعارَفَه النَّاس، ويُؤيِّده قوله - تعالى -:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } [يونس: 44] والذَّرَّة، قال أهل اللُّغَة: هي النَّمْلَة الحمراء، وقيل: رَأْسُها، وقيل: الذَّرَّة جُزْء من أجْزَاء الهَبَاء في الكوة، ولا يَكُون لها وَزْن.

وروي أن ابْن عبَّاس أدْخَل يَدَه في التُّرَاب، ثم رَفَعَها، ثم نَفَخَ فيها، ثم قال: كل وَاحِدٍ من هَذِه الأشْيَاء.

والأول هو المَشْهُور: لأن النَّمْلَةَ يُضْرب بها المثل في القِلَّة، وأصغر ما يَكُون إذا مرّ عليها حَوْل، وقالوا: لأنَّها حينئذٍ تَصْغُرُ جِدَّاً.

قال حَسّان: [الخفيف]
1797- لَوْ يَدِبُّ الحَوْليُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ   رِ عَلَيْهَا لأنْدَبَتْها الكُلُومُ
وقال امْرُؤُ القَيْس: [الطويل]
1798- مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ   مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرَا
فصل

روي مُسْلِم عن أنس؛ قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَظْلِمُ اللَّهُ مُؤْمِناً حَسَنَة، يُعْطَى بها [في الدُّنْيَا] ويُجْزَى بها في الآخِرَة، وأما الكَافِر فَيُعْطى حسناتٍ ما عامل اللَّه بِهَا في الدُّنْيَا، حتى إذا مَضَى إلى الآخِرَةِ، لم يَكُن له حَسَنَة يُجْزَى عَلَيْهَا ".

فصل: دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار

واحتج أهْل السُّنَّة بهذه الآية، على أنَّ المُؤمنين يَخْرجُون من النَّار إلى الجَنَّة؛ قالوا: لأن ثَوَاب الإيمان والمُداوَمَة على التَّوْحيد، والإقْرَار بالعُبُودِيَّة مائة سَنَة، أعْظَم ثواباً من عِقَابِ شُرْب جَرْعَة من الخَمْر، فإذا حضر هذا الشَّارِبُ القيامَة وأسْقِط [عنه] قدر عِقَاب هذه المَعْصِية من ذلك الثَّواب العَظيم، فَضُل له من الثَّواب قَدْر عَظيم، فإذا دخل النار بسبب القَدْر من العِقَابِ، فلو بَقي هُنَاك، لكان ذَلِكَ ظُلْمَاً، فوجب القَطْع بأنه يَخْرُج إلى الجَنَّة.

وقوله: { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حذفت النَّون تَخْفِيفاً، لكثرة الاستعمَال، وهذه قَاعِدَةٌ كُلِّية، وهو أنه يجوز حذْف نُون " تكُون " مجْزُومة، بشرط ألاَّ يلِيهَا ضميرٌ متَّصِل؛ نحو لم يَكُنْه، وألاَّ تُحرَّك النٌّون لالتقاء الساكنِين، نحو:

السابقالتالي
2