الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }

قوله: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } الآية لمَّا أقام الحُجَّة القَاطِعَة على أنَّ عيسى عَبْدُ الله، لا يَجُوز أن يكُون ابْناً لَهُ، أشَارَ بَعْدَه إلى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِم، وأجَابَ عَنْهَا؛ لأنَّ الشُّبْهَة التي عَوَّلُوا عَلَيْها في إثْبَاتِ أنَّهُ ابن اللَّهِ؛ هو [أنَّه] كان يُخْبِرُ عن الغيبيّات، ويأتي بِخَوارقِ العاداتِ من الإبْرَاء والإحْيَاء، فكأنَّهُ - تعالى - قال: { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ } بسبب القَدْرِ من العِلْم والقُدْرَة عن عِبَادةِ الله - [سبحانه] وتعالى -، فإن الملائِكَة المقَرَّبينَ أعْلَى حَالاً مِنْهُ في اَلقُدْرَة؛ لأن ثَمَانِيةً منهم حَمَلةُ العَرْشِ على عَظَمَتِهِ، ثم [إنّ] الملائكة مع كمالهم في العُلُوم، لمْ يَسْتَنْكِفُوا عن عُبُودِيَّة الله، فكيف يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ عن عُبُوديَّته بسبب هذا القَدْرِ القَلِيلِ الذي كان مَعَهُ من العِلْمِ والقُدْرَة.

والاسْتنْكَافُ: استفعالٌ من النَّكْفِ، والنَّكْفُ: أن يُقال [له] سوء، ومنه: " وما عليه في هذا الأمْرِ نَكْفٌ ولا وَكْفٌ " ، قال أبو العباس: " واسْتَفْعَلَ هنا بمعنى دفع النَّكْفَ عَنْه " ، وقال غيره: " هو الأنَفَةُ والتَّرفُّع " ، ومنه: " نَكَفْتُ الدَّمْعَ بإصْبَعِي " ، إذا منعته من الجَرْي على خَدِّك، قال: [الطويل]
1910- فبَانُوا فُلُولاً ما تَذَكَّرُ مِنْهُمُ   مِنَ الحِلْفِ لَمْ يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُ
فصل

رُوِيَ أن وَفْدَ نَجْرَان قالُوا: يا مُحَمَّد، إنك تَعِيبُ صَاحِبَنَا، فتقول: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " ليْسَ بعارٍ لعيسى - عليه السلام - أنْ يكُوْنَ عَبْداً لِلَّهِ " فنزلَت هذه الآية.

وقرأ عَلِيٌّ: " عُبَيْداً " على التَّصْغِير، وهو مُنَاسِبٌ للمَقَام، وقرأ الجمهورُ " أن يكُون عَبْداً لِلَّهِ " بفتح همزة " أنْ " ، [فهوُ في موضعِ نَصْبٍ، وقرأ الحسن: " إنْ " بكَسْر الهمزة على أنَّها نَفيٌ بمعنى]: ما يكون له ولدٌ، فينبغي رفع " يكونُ " ، ولم يذكره الرواة؛ نقله القرطبيّ.

وقوله تعالى: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } عطف على " المَسِيح " ، أي: ولَنْ يَسْتَنْكِفَ الملائكةُ أن يكُونُوا عَبيداً لله، وقال أبو حيان ما نصُّه: " وفي الكلام حَذْفٌ، التقدير: ولا الملائكةُ المقرَّبون أن يكونُوا عبيداً لله، فإن ضُمِّن " عَبْداً " معنى " مِلْكاً لله " ، لم يَحْتَجْ إلى هذا التقدير، ويكونُ إذ ذاك { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لُحِظَ في " عَبْد " معنى الوَحْدَة، فإن قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } يكون [من] عطف الجملِ؛ لاختلاف الخبر، وإنْ لُحِظَ في قوله: { وَلاَ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ } معنى: " ولا كلُّ واحدٍ مِنَ الملائِكَةِ " كان من باب عطف المفردات " ، وقال الزمخشريُّ: " فإن قلتَ: علام عُطِفَ " والمَلاَئِكَةُ "؟ قلت: إمَّا أن يُعْطَفَ على " المَسِيحُ " ، أو اسم " يَكُونُ " ، أو على المستتر في " عَبْداً " لما فيه من معنى الوصْف؛ لدلالته على العبادة، وقولك: " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَبْدٍ أبُوهُ " فالعطفُ على المسيحِ هو الظاهرُ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرضِ، وهو أن المسيحَ لا يأنَفُ أن يكون هو ولا من فَوقَهُ موصوفين بالعبودية، أو أن يعبُدَ الله هو ومن فوقه " ، قال أبو حيان: " والانحراف عن الغرضِ الذي أشارَ إليه كونُ الاستنكَافِ يكون مختصًّا بالمسيحِ، والمعْنَى التامُّ إشراكُ الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكَافِ عن العبوديَّة، ويظهرُ أيضاً مرجوحيَّةُ الوجهين من وجه دخُول " لاَ "؛ إذ لو أُريدَ العطفُ على الضمير في " يكُون " أو في " عَبْداً " لم تَدْخُل " لا " ، بل كان يكون التركيبُ بدونها، تقول: " ما يريدُ زيدٌ أن يكُونَ هُو وأبُوهُ قَائِمَيْن " و " ما يُريدُ زيدٌ أنْ يَصْطَلِحَ هُوَ وعَمْرٌو " ، فهذان التركيبان لَيْسَا من مَظَنَّةِ دخولِ لا، وإن وُجد منه شيءٌ، أوِّل ".

السابقالتالي
2 3