لمَّا أجابَ عن شُبَهَاتِ اليَهُودِ، تكلَّم بعد ذَلِك مع النَّصَارَى، والتَّقْدِير: يا أهل الكتابِ من النَّصَارَى لا [تغلُوا في دينكم]، أي: تُفْرطوا في تَعْظِيم المَسيحِ، والغُلُوُّ: تجاوُز الحدِّ، ومنه: غلْوَة السَّهْم، وغَلاَء السِّعْرِ. واعلم أنه - تعالى - حَكَى عن اليَهُودِ مُبَالَغَتَهُم في الطَّعْنِ في المَسِيحِ، وهنا حَكَى عن النَّصَارَى مُبَالَغَتَهُم في تعظِيمِه، وهم أصْنَاف اليَعْقُوبِيَّة، والملْكَانِيَّةَ، والنَّسْطُورِيَّة والمُرْقُسِيَّة. فقالت اليَعْقُوبيَّة: عِيسَى هو اللَّه، وكَذَلِك الملْكَانِيَّة. وقالت النَّسْطُوريَّة: عيسى ابْنُ اللَّهِ. وقالت المرقسيّة: ثَالِثُ ثلاثةٍ، فأنْزَل الله هذه الآية. ويُقالُ: إن المْلكانِيَّة تقُولُ: عيسَى هُو اللَّهُ، واليَعْقُوبِيَّة يقُولُون: ابْنُ الله، والنَّسْطُوريَّة يقُولُون: [ثَالِث] ثلاثة عليهم رَجُلٌ من اليَهُود يُقَال لَهُ: بُولُص، وسيأتِي في سُورةِ التَّوْبَةِ - إن شاء الله تعالى -. وقال الحسن: يَجُوزُ أن تكُون نزلت في اليَهُود والنَّصَارَى؛ فإنهم جَمِيعاً غَلَواْ في أمْرِ عيسى - عليه السلام - فاليَهُود بالتَّقْصِير، والنَّصَارى بمُجَاوَزَةِ الحدّ، وهو في الدِّين حَرَامٌ. { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } وتَصِفُوا اللَّهَ بالحُلُولِ والاتَّحَادِ في بدَنِ الإنْسَانِ أوْ رُوحِهِ. وقيل: لا تَقُولُوا إنَّ لَهُ شَرِيكاً أوْ وَلْداً، ونزِّهُوهُ عن هَذِه الأحْوَالِ. قوله: " إلاَّ الحَقَّ " هذا استثناء مُفَرَّغٌ، وفي نصبه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به؛ لأنه تضمَّن معنى القول؛ نحو: " قُلْتُ خُطْبَةً ". والثاني: أنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إلا القولَ الحَقَّ، وهو قريب في المعنى من الأوَّل. قوله [- سبحانه -]: { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ }. قرأ جعفر بن محمَّد: " المِسِّيح " بوزن " السِّكِّيت "؛ كأنه جعله مثال مبالغة؛ نحو: " شِرِّيب العَسَل " ، و " المسيح " مبتدأ بعد " إنَّ " المكفوفة، و " عِيسَى " بدلٌ منه، أو عطف بيان، و " ابنُ مَرْيَمَ " صفته و " رَسُولُ الله " خبر المبتدأ، و " كَلِمَتُهُ " عطف عليه. و " ألْقَاها " جملةٌ ماضية في موضع الحال، و " قَدْ " معها مقدرةٌ، وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء: أحدها: أنه معنى " كَلِمة "؛ لأنَّ معنى وصْفِ عيسى بالكلمة: المُكَوَّنُ بالكلمة من غير أبٍ، فكأنه قال: وَمَنْشَؤُهُ ومُبْتَدَعُهُ. والثاني: أن يكون التقدير: إذ كان ألقاها، فـ " إذْ " ظرفُ زمانٍ مستقبل، و " كان " تامَّة، وفاعلها ضمير الله تعالى، و " ألقاها " حالٌ من ذلك الفاعل، وهو كقولهم: " ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً ". والثالث: أن يكون حالاً من الهاء المجرورة، والعاملُ فيها معنى الإضافة، تقديره: وكلمةُ اللَّهِ مُلْقياً إيَّاهاَ. انتهى. أمَّا جعله العامل معنى " كلمة " فصحيحٌ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في كَلِمَتُهُ " العائدُ على عيسى؛ لما تضمَّنَتْهُ من معنى المشتقِّ؛ نحو: " مُنْشَأ ومُبْتَدَع " ، وأمَّا جعلُهُ العاملَ معنى الإضافة، فشيءٌ ضعيفٌ، ذهب إليه بعض النحويِّين، وأمَّا تقديرُه الآية بمثل " ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً " ، ففاسدٌ من حيث المعنى، والله أعلم.