الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }

لمَّا أجابَ عن شُبَهَاتِ اليَهُودِ، تكلَّم بعد ذَلِك مع النَّصَارَى، والتَّقْدِير: يا أهل الكتابِ من النَّصَارَى لا [تغلُوا في دينكم]، أي: تُفْرطوا في تَعْظِيم المَسيحِ، والغُلُوُّ: تجاوُز الحدِّ، ومنه: غلْوَة السَّهْم، وغَلاَء السِّعْرِ.

واعلم أنه - تعالى - حَكَى عن اليَهُودِ مُبَالَغَتَهُم في الطَّعْنِ في المَسِيحِ، وهنا حَكَى عن النَّصَارَى مُبَالَغَتَهُم في تعظِيمِه، وهم أصْنَاف اليَعْقُوبِيَّة، والملْكَانِيَّةَ، والنَّسْطُورِيَّة والمُرْقُسِيَّة.

فقالت اليَعْقُوبيَّة: عِيسَى هو اللَّه، وكَذَلِك الملْكَانِيَّة.

وقالت النَّسْطُوريَّة: عيسى ابْنُ اللَّهِ.

وقالت المرقسيّة: ثَالِثُ ثلاثةٍ، فأنْزَل الله هذه الآية.

ويُقالُ: إن المْلكانِيَّة تقُولُ: عيسَى هُو اللَّهُ، واليَعْقُوبِيَّة يقُولُون: ابْنُ الله، والنَّسْطُوريَّة يقُولُون: [ثَالِث] ثلاثة عليهم رَجُلٌ من اليَهُود يُقَال لَهُ: بُولُص، وسيأتِي في سُورةِ التَّوْبَةِ - إن شاء الله تعالى -.

وقال الحسن: يَجُوزُ أن تكُون نزلت في اليَهُود والنَّصَارَى؛ فإنهم جَمِيعاً غَلَواْ في أمْرِ عيسى - عليه السلام - فاليَهُود بالتَّقْصِير، والنَّصَارى بمُجَاوَزَةِ الحدّ، وهو في الدِّين حَرَامٌ.

{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } وتَصِفُوا اللَّهَ بالحُلُولِ والاتَّحَادِ في بدَنِ الإنْسَانِ أوْ رُوحِهِ.

وقيل: لا تَقُولُوا إنَّ لَهُ شَرِيكاً أوْ وَلْداً، ونزِّهُوهُ عن هَذِه الأحْوَالِ.

قوله: " إلاَّ الحَقَّ " هذا استثناء مُفَرَّغٌ، وفي نصبه وجهان:

أحدهما: أنه مفعول به؛ لأنه تضمَّن معنى القول؛ نحو: " قُلْتُ خُطْبَةً ".

والثاني: أنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إلا القولَ الحَقَّ، وهو قريب في المعنى من الأوَّل.

قوله [- سبحانه -]: { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ }.

قرأ جعفر بن محمَّد: " المِسِّيح " بوزن " السِّكِّيت "؛ كأنه جعله مثال مبالغة؛ نحو: " شِرِّيب العَسَل " ، و " المسيح " مبتدأ بعد " إنَّ " المكفوفة، و " عِيسَى " بدلٌ منه، أو عطف بيان، و " ابنُ مَرْيَمَ " صفته و " رَسُولُ الله " خبر المبتدأ، و " كَلِمَتُهُ " عطف عليه.

و " ألْقَاها " جملةٌ ماضية في موضع الحال، و " قَدْ " معها مقدرةٌ، وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء:

أحدها: أنه معنى " كَلِمة "؛ لأنَّ معنى وصْفِ عيسى بالكلمة: المُكَوَّنُ بالكلمة من غير أبٍ، فكأنه قال: وَمَنْشَؤُهُ ومُبْتَدَعُهُ.

والثاني: أن يكون التقدير: إذ كان ألقاها، فـ " إذْ " ظرفُ زمانٍ مستقبل، و " كان " تامَّة، وفاعلها ضمير الله تعالى، و " ألقاها " حالٌ من ذلك الفاعل، وهو كقولهم: " ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً ".

والثالث: أن يكون حالاً من الهاء المجرورة، والعاملُ فيها معنى الإضافة، تقديره: وكلمةُ اللَّهِ مُلْقياً إيَّاهاَ. انتهى. أمَّا جعله العامل معنى " كلمة " فصحيحٌ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في كَلِمَتُهُ " العائدُ على عيسى؛ لما تضمَّنَتْهُ من معنى المشتقِّ؛ نحو: " مُنْشَأ ومُبْتَدَع " ، وأمَّا جعلُهُ العاملَ معنى الإضافة، فشيءٌ ضعيفٌ، ذهب إليه بعض النحويِّين، وأمَّا تقديرُه الآية بمثل " ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً " ، ففاسدٌ من حيث المعنى، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3 4