الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } * { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } * { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً }

قوله - تعالى -: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } الآية لمَّا ذكر قَبَائِح أفْعَالِ اليَهُودِ، ذكر عَقِيبَهُ تشديدَهُ - تعالى - عليْهِم في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، أما تَشْدِيدُه في الدُّنْيَا، فهو تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ عليهم وكانتْ مُحَلَّلَةً لهم قَبْل ذلك؛ لقوله - تعالى -:وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [الأنعام: 146] إلى قوله [- تعالى -]:ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } [الأنعام: 146] وقيل: لمحمد عليه السلام.

قوله سبحانه: " فَبِظُلمٍ ": هذا الجارُّ متعلِّق بـ " حَرَّمْنَا " والباء سببية، وإنما قُدِّم على عاملِه؛ تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ، وقد تقدَّم أنَّ قوله: " فَبِظُلْمٍ " بدلٌ من قوله: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } ، وتقدَّم الردُّ على قائله أيضاً فأغْنَى عن إعادته، و " مِنَ الذِينَ " صفة لـ " ظُلْم " أي: ظُلْمٍ صادر عن الذين هادُوا، وقيل: ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعلْمِ بها، أي: فبظُلْمٍ أيِّ ظُلْمٍ، أو فبِظُلْمٍ عَظِيمٍ؛ كقوله: [الطويل]
1900- فَلاَ وَأبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى   عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ
أي: لَحْمٍ عظيمٍ.

قوله جلَّ وعلا: " أُحِلَّتْ لَهُمْ " هذه الجملةُ صفةٌ لـ " طَيِّبَات " فمحلُّها نصبٌ، ومعنى وصفها بذلك، أي: بما كانَتْ عليه مِنَ الحِلِّ، ويوضِّحه قراءة ابن عباس: " كانَتْ أُحِلَّتْ لَهُم " والمُرَادُ من ظُلْمِهِم: ما تقدَّم ذِكْرُه من نَقْضِ الميثاقِ، وكُفْرِهِم بآيَاتِ اللَّهِ، وبُهْتَانِهِم على مَرْيَمَ، وقولهم: " إنا قتلنا المسيح " { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ } وهو ما ذُكِرَ في سُورَةِ الأنْعَامِ [الأنعام: 146] " وبصَدِّهِمْ " وبصرْفِهِم أنْفُسهم وغيرهم { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } عن دين اللَّهِ.

قوله: " كثيراً " فيه ثلاثة أوجه:

أظهرها: أنه مفعول به، أي: بصدِّهم ناساً، أو فريقاً، أو جمعاً كثيراً، وقيل: نصبُه على المصدرية، أي: صَدّاً كثيراً، وقيل: على ظرفية الزمان، أي: زماناً كثيراً، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّ المصادر بَعْدها ناصبةٌ لمفاعليها، فيجري البابُ على سَنَنٍ واحدٍ، وإنما أعيدتِ الباءُ في قوله: " وَبِصَدِّهِمْ " ولم تَعُدْ في قوله: " وأخْذِهِمْ " وما بعده؛ لأنه قد فُصِلَ بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه وهو " حَرَّمْنَا " وما تعلَّق به، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصْلِ بما ليس معمولاً للمعطُوف عليه، أعيدت الباءُ لذلك، وأمَّا ما بعده، فلم يُفْصَلْ فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطُوفِ عليه وهو " الرِّبَا ". { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } في التوراة.

والجملةُ من قوله تعالى: { وَقَدْ نُهُواْ عَنْه }: في محلِّ نصب؛ لأنها حاليةٌ، ونظيرُ ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادته ما تقدَّم في قوله:فَبِمَا نَقْضِهِم مَّيثَاقَهُمْ } [النساء: 155] الآية. " وبِالبَاطِلِ " يجوز أن يتعلق بـ " أكْلِهِم " على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من " همْ " في " أكْلِهِمْ " ، أي: ملتبسين بالباطل.

السابقالتالي
2 3 4