في " مَا " وجهان: أحدهما: أنها استفهامية، فتكون في محل نصب بـ " يَفْعَل " وإنما قُدِّم؛ لكونه له صدر الكلام، والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ بـ " يَفْعَلُ " ، والاستفهام هنا معناه النفيُ، والمعنى: أن الله لا يفعلُ بعذابِكُمْ شيئاً؛ لأنه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعاً، ولا يدْفَعُ عنها به ضُرًّا، فأيُّ حاجة له في عذابكُمْ؟ [والمقصودُ منه حمل المكلَّفين على فعل الحَسَن والاحتراز عن القبيح]. والثاني: أن " مَا " نافية؛ كأنه قيل: لا يُعذِّبُكُمُ الله، وعلى هذا: فالباء زائدة، ولا تتعلَّق بشيءٍ. [قال شهاب الدين:] وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ، فينبغي أن تكون سبييةٌ في الموضعين أو زائدة فيهما؛ لأن الاستفهام بمعنى النفْيِ، فلا فرق. وقال البَغَوِي: هذا اسْتِفْهَام بمعْنَى التَّقْرير معناه: إنه لا يُعَذِّبُ المؤمِنَ الشَّاكِر، فإن تَعْذِيبَهُ عِبَادهُ لا يَزِيدُ في مُلْكِهِ، وتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُم على فعلهم لا يُنْقصُ من سُلطانِه [والشُّكْرُ ضد الكُفر، والكُفْر سَتْر النِّعْمَة والشُّكْرُ إظهَارُهَا]، والمصدر هُنا مُضَاف لمفْعُولِهِ. وقوله " إِن شَكَرْتُمْ " جوابُهُ مَحْذُوفٌ؛ لدلالةِ ما قبله عليه، أي: إن شَكَرْتُم وآمَنْتُم فما يَفْعَلُ بعَذابكُم. فصل لِمَ قدَّم الشُّكر على الإيمان في الآية؟ وفي تَقْدِيم الشُّكْرِ على الإيمانِ وُجُوه: الأول: على التَّقْدِيم والتَّأخير، أي: آمَنْتُم وشكرْتُم؛ لأن الإيمان مقدَّمٌ على سَائِر الطَّاعَاتِ، ولا يَنْفَعُ الشكْرُ مع عَدَمِ الإيمَانِ. الثاني: أن الوَاوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. الثالث: أن الإنْسَانَ إذا نَظَر إلى نَفْسِهِ، رَأى النِّعْمَة العَظيمَة في تَخْلِيقهَا وتَرْتيبها، فيْشكُر شُكْراً مُجْمَلاً بِهَا، ثُمَّ إذا تَمَّمَ النَّظَر في مَعْرِفَة المُنْعِم، آمَنَ به ثُمَّ شكَر شُكْراً مُفَصَّلاً، فكان ذلك الشكْرُ المُجْمَل مُقَدَّماً على الإيمانِ؛ فَلِهذَا قُدِّمَ عليه في الذِّكْرِ. فصل اسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ لا يُعَذَّبُ أصْحَاب الكَبَائِرِ؛ لأنا نفرض الكلام فيمن شَكَر وآمن، ثم أقْدَم على الشُّرْبِ أو الزِّنَا، فهذا يَجِبُ ألاَّ يُعَاقَبَ؛ لقوله - تعالى -: { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } وقد تقدَّم الاسْتِدْلاَل على أنَّ صَاحِب الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ. فصل قالت المُعْتَزِلَة: دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه - سبحانه [وتعالى] - ما خَلَق خَلْقاً ابْتِدَاءً لأجْلِ التَّعْذِيب والعِقَابِ؛ لأن قوله: { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } صريحٌ في أنَّه - تعالى - لَمْ يَخْلُق أحْداً لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ. ودلَّت أيضاً على أنَّ فاعل الشُّكْرِ والإيمانِ هو العَبْد، وليس ذلك فِعْلاً للَّه تعالى وإلا لَصَار التَّقْدِير: ما يَفْعَلُ اللَّه بعذَابِكُم بعد أن خَلَقَ الشُّكْرَ والإيمَانَ فِيكُم، وذلك غير مُنْتَظِم. وتقدَّم الجوابُ عن مِثْلِ ذلك. ثم قال { وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } أمرَهُمْ بالشُّكْرِ، وسَمَّى الجَزَاءَ شُكْراً، على سَبيلِ الاسْتِعَارةِ، فالشُّكْرُ من اللَّهِ هو الرِّضَا بالقَلِيلِ من عِبَادِهِ، وإضْعَافِ الثَّوَابِ عَلَيْه، والشُّكْر من العَبْدِ الطَّاعَة، والمُراد من كونه عَلِيماً: أنَّهُ عَالِمٌ بِجَميع الجُزْئيَّات، فلا يَقَعُ لَهُ الغَلَطُ ألْبَتَّة، فلا جَرَمَ يُوصلُ الثَّوَابَ إلى الشَّاكِرِ، والعِقَابَ إلى المُعرِضِ.