الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } * { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

قد تقدَّم تفسير الخِدَاع واشتقاقه أوّل البقرة، ومعنى المُفَاعَلة فيه.

قال الزَّجَّاج: مَعْنَاه: يُخَادِعُون الرَّسُول، أي: يظهرون لَهُ الإيمَان ويبطنون الكُفْرَ؛ كقوله:إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح: 10]، وسمّي المُنَافِق مُنَافِقاً؛ أخذاً من: نَافِقَاء اليَرْبُوع؛ وهي جُحْره؛ فإنه يَجْعَلُ له بَابَيْن، يَدْخُلُ من أحدهما ويَخْرُجُ من الآخَر؛ كذلك المُنَافِق، يَدْخُل مع المؤمنين بقوله: أنا مُؤمِنٌ، [ويدخل مع الكَافِر بقوله: أنا كَافِر]، وجُحْرُ اليَرْبُوعِ يُسَمَّى النَّافِقَاء، والسَّاميَاء والدَّامياء، [فالسَّامِيَاء]: هو الجحر الذي تلد فيه الأنْثَى، [والدامياء: هو الذي يَكُون] فيه.

قوله: " وَهُوَ خَادِعُهُمْ " فيه ثلاثة أقْوَالٍ:

أحدها: ذكرَه أبُو البقاء: أنه نَصْبٌ على الحَالِ.

والثاني: أنَّها في مَحَلِّ رفعٍ عطْفاً على خَبَر " إنَّ ".

الثالث: أنَّها استِئْنَاف إخْبَار بِذَلك.

قال الزَّمَخْشَرِيُّ: " وخادعٌ: اسم فاعِل من خَادعْتُه، فَخَدَعْتهُ إذا غَلَبْتهُ، وكنت أخْدَع مِنْه ". قوله: " وَهُوَ خَادِعُهُم " أي: مُجَازيهم بالعِقَاب على خِدَاعِهم.

قال ابن عبَّاس: إنهمَ يُعْطَوْن نوراً يَوْم القِيَامةِ كالمؤمنين، فيَمْضِي المُؤمِنُون بنورهم على الصِّراطِ، ويُطْفَأ نور المُنَافِقِين، يدلُّ عليه قوله:مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17].

قوله: " وإذا قَامُوا " عطفٌ على خَبَر " إنَّ " أخبر عَنْهم بِهَذِه الصِّفَاتِ الذَّميمة، و " كُسَالى ": نصبٌ على الحَالِ من ضَمِير " قَامُوا " الواقع جواباً، والجُمهورُ على ضمِّ الكاف، وهي لُغة أهل الحِجاز [جمع كَسْلان: كسَكَارَى]، وقرأ الأعرج بفتحها، وهي لُغَةُ تميم وأسَدٍ، وقرأ ابن السَّمَيْفع: " كَسْلى " وصَفَهم بِمَا تُوصف به المُؤنَّثَة المفردةُ، اعْتِبَاراً بمعنى الجماعة؛ كقوله: " وتَرَى الناسَ سَكْرى " ، والكسلُ: الفُتُورُ والتواني، وأكْسَل: إذا جَامَعَ وفَتَر ولم يُنْزل. والمعنى: أن المُنَافِقِين إذا قامُوا إلى الصَّلاةِ، قاموا مُتَثَاقِلِين، لا يُرِيدُون بها الله - تعالى-، فإن رَآهم أحَدٌ، صلَّوا، وإلا انْصَرَفُوا فَلَمْ يُصَلُّوا.

قوله: " يُراؤون [النَّاسَ] " في هذه الجُمْلَةِ ثلاثةُ أوجه:

أحدُها: أنها حَالٌ من الضَّمير المُسْتَتر في " كُسَالى ".

الثاني: أنها بَدَلٌ من " كُسَالَى "؛ ذكره أبو البقاء، فيكونُ حالاً من فاعل " قَامُوا " وفيه نظر، لأنَّ الثَّاني ليس الأوَل ولا بَعْضَه ولا مُشْتَمِلاً عليه.

الثالث: أنها مُستأنفةٌ أخْبر عَنْهم بذلك، وأصلُ يُراؤون: يُرائِيُون، فأعِلَّ كَنَظائره، والجمهور على: " يُراؤون " من المُفاعلةِ.

قال الزَّمْخْشَرِيُّ: فإنْ قلت: ما مَعْنَى المراءاة، وهي مُفاعَلَة من الرُّؤيَة؟ قلت: لها وجهان:

أحدهما: أنَّ المُرَائِيَ يُريهم عَمَلَه، وهم يُرُونه الاسْتحْسَانَ.

والثاني: أن تكُونَ من المُفاعلة بمعنى: التَّفْعِيل، يقال: نعَّمه وناعَمَهُ، وفَنَّقه وفَانَقَه، وعيش مُفَانِق، وروى أبو زَيْد: " رأَّت المَرْأةُ المِرْآة [الرَّجُل] " إذا أمْسكَتْها له ليرى وَجهَه؛ ويدل عليه قراءةُ ابن أبي إسحاق: " يُرَؤّونَهُم " بهمزةٍ مُشَدَّدةٍ مثل: يُدَعُّونهم، أي: يُبَصِّرونهم ويُرَاؤونهم كذلك، يعني: أن قراءةَ: " يُرَؤُّنهم " من غير ألفٍ، بل بهمزةٍ مَضْمُومةٍ مشدَّدَةٍ توضِّح أنَّ المُفاعَلَة هنا بِمَعْنَى التفعيل.

السابقالتالي
2 3 4 5