الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }

في اتِّصال [هذه] الآية وُجُوهٌ:

أحدها: لما تقدَّمَ ذكر النِّساء والنُّشُوز، والمُصَالحَةِ بينهُنَّ وبين الأزْوَاج عَقبه بقيام أدَاءِ حقوق اللَّه - تعالى-، وفي الشَّهَادَةِ إحياء حقوقِ اللَّه؛ فكأنه قِيل: وإن اشْتغَلْتَ بتحصيلِ شهواتِكَ، كنت لِنَفْسِكَ، لا لِلَّه، [وإن اشتغَلْتَ بِتحْصِيل مأمُوراتِ اللَّه كنت للَّه، لا لِنَفْسِكَ]، وهذا المقام أعلَى وأشْرَف، فكانت هَذِه الآية تأكيداً لِمَا تقدَّم من التَّكَالِيفِ.

الثاني: أن اللَّه - تعالى - لمَّا منَع النَّاس عن اقْتِصَارِهم على ثَوَابِ الدُّنْيَا، وأمرهُم أنْ يَطْلُبوا ثواب الآخِرَة، عَقَّبَه بهذه الآيَةِ، وبَيَّنَّ أنَّ كمال سَعَادَة الإنْسَان، في أنْ يكون قولُه وفِعْلُه للَّه، وحركَتهُ للَّه، وسُكُونهُ للَّه؛ حتى يصير من الَّذِين يكُونُون في آخِر مَرَاتِب الإنْسَانِيّة، وأوَّل مراتب الملائِكَة، فإذا عَكَس القضيّة، كان مِثْل البَهِيمَة الَّتِي مُنْتهَى أمْرِها وُجْدَان عَلَفِها والشَّبَع.

الثالث: أنه تقدَّم في هذه السُّورَة تَكَالِيفُ كَثِيرةٌ، فِأمرَ النَّاس بالقِسْط بقوله:وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } [النساء: 3]، وأمرهم بالإشْهَاد عِنْد دَفْع أمْوَال اليَتَامَى إليْهِم، وأمَرَهُم ببَذْلِ النَّفْسِ والمَالِ في سَبيلِ اللَّه، وذكر قِصَّة طعمة بن الأبَيْرِقِ، واجتماع قوْمه على الذَّبِّ عنه [بالكذب] والشَّهَادة على اليَهُودي بالبَاطِل، وأمر بالمُصَالَحَة مع الزَّوْجَة، وكلُّ ذلك أمْر من اللَّه لعبادِه بالقِيَام بالقِسْط، والشَّهَادَة [فيه] [للَّه] على كُلِّ أحَدٍ، فكانت هذه الآيَة كالمُؤكِّد لما تقدَّم من التَّكَالِيفِ.

القَوَّامُ: مُبَالغة من قَائِمٍ، والقِسْط: العَدْل، وهذا أمْر مِنه - تعالى - لجميع المكَلَّفِين، بأن يُبَالغُوا في العَدْل، والاحْتِرَازِ عن الجَوْر والمَيْل.

قوله: " شُهَداءَ لِلَّه " فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه خَبرٌ ثَانٍ لكان، وفيه خِلاَف تقدَّم ذِكْرهُ.

والثاني: أنه حَالٌ من الضَّمير المُسْتَكِنِّ في: " قوَّامينَ " فالعَامِل فيها: " قوَّامين ".

وقد ردَّ أبو حيَّان [هذا الوجه: بأنَّه يَلْزَم منه تقييدُ كونهم قوَّامين بحال الشَّهادَةِ، وهم مأمُورُون بذلك مُطْلَقاً].

وهذا الردُّ ليْس بِشَيْءٍ؛ فإن هذا المَعْنَى نَحَا إلَيْه ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: كُونُوا قوَّامِين بالعَدْل في الشَّهَادَة على من كانت، وهذا هُو مَعْنَى الوَجْه الصَّائِر إلى جَعْل شُهَداء حالاً.

الثالث: أن يكون صِفَة لـ " قوَّامين " ، ومَعْنَى قوله: " للَّه " أي: لِذَات اللَّه، ولوجْهِه ولمرْضَاتِه، وثَوَابِه.

قوله: { وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُم } " لو " هذه تَحْتَمل أنْ تَكُونَ على بَابِها من كَوْنِها حرفاً لما كان سَيَقعُ لوقُوعِ غَيْرِه، وجوابُها مَحْذُوفٌ، أي: ولو كُنْتُم شُهَدَاءَ على أنْفُسكم، لوجب عَلَيْكُم أن تَشْهدوا عليها.

وأجاز أبو حيَّان أن تَكُونَ بمعنى: " إن " الشَّرطِيّة، ويتعلَّق قوله: " عَلَى أنْفُسِكُم " بمحذوفٍ، تقديرُه: وإن كنتم شُهَدَاء على أنْفُسِكم، فكونوا شُهَدَاءَ لله، هذا تَقْدِيرُ الكلام، وحذفُ " كان " بعد " لو " كَثِيرٌ، تقول: ائتِني بِتَمْر، ولو حَشَفاً، أي: وإن كان التَّمْر حشفاً، فأتني به.

السابقالتالي
2 3 4 5 6